فصل: تفسير الآيات رقم (21- 28)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 28‏]‏

‏{‏أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ ‏(‏21‏)‏ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏22‏)‏ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ‏(‏23‏)‏ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏24‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ‏(‏25‏)‏ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ‏(‏26‏)‏ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ‏(‏27‏)‏ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

ولما كانوا عند هذا البيان جديرين بأن يبادروا إلى التوحيد فلم يفعلوا، كانوا حقيقين بعد الإعراض عنهم- بالتوبيخ والتهكم والتعنيف فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أم اتخذوا‏}‏ أي أعلموا أن كل شيء تحت قهره نافذ فيه أمره فرجعوا عن ضلالهم، أم لم يعلموه، أو عملوا ما ينافيه فاتخذوا ‏{‏ءالهة‏}‏‏.‏

ولما كانت معبوداتهم أصناماً أرضية من حجارة ونحوها قال‏:‏ ‏{‏من الأرض‏}‏ أي التي هم مشاهدون لأنها وكل ما فيها طوع مشيئته ‏{‏هم‏}‏ أي خاصة ‏{‏ينشرون*‏}‏ أي يحيون شيئاً مما فيها من الأجسام النامية حتى يستحقوا بذلك صفة الإلهية، وإفادة السياق الحصر تفيد أنه لو وقع الإنشاء لأحد على وجه يجوّز مشاركة غيره له لم يستحق العبادة، وفي هذا الاستفهام تهكم بهم بالإشارة إلى أنهم عبدوا ما هو من أدنى ما في الأرض مع أنه ليس في الأرض ما يستحق أن يعبد، لأن الإنسان أشرف ما فيها، ولا يخفى ما له من الحاجة المبعدة من تلك الرتبة الشماء‏.‏

ولما كان الجواب قطعاً‏:‏ لم يتخذوا آلهة بهذا الوصف، ولا شيء غيره سبحانه يستحق وصف الإلهية، أقام البرهان القطعي على صحة نفي إله غيره ببرهان التمانع، وهو أشد برهان لأهل الكلام فقال‏:‏ ‏{‏لو كان فيهما‏}‏ أي السماوات والأرض، أي في تدبيرهما‏.‏

ولما كان الأصل فيما بعد كل من «إلا» و«غير» أن يكون من جنس ما قبلهما وإن كان مغايراً له في العين، صح وضع كل منهما موضع الآخر، واختير هنا التعبير بأداة الاستثناء والمعنى للصفة إذ هي تابعة لجميع منكور غير محصور الإفادة إثبات الإلهية له سبحانه مع النفي عما عداه، لأن ‏{‏لولا‏}‏- لما فيها من الامتناع- مفيدة للنفي، فالكلام في قوة أن يقال «ما فيهما» ‏{‏ءالهة إلا الله‏}‏ أي مدبرون غير من تفرد بصفات الكمال، ولو كان فيهما آلهة غيره ‏{‏لفسدتا‏}‏ لقضاء العادة بالخلاف بين المتكافئين المؤدي إلى ذلك، ولقضاء العقل بإمكان الاختلاف اللازم منه إمكان التمانع اللازم منه إمكان عجز أحدهما اللازم منه أن لا يكون إلهاً لحاجته، وإذا انتفى الجمع، انتفى الاثنان من باب الأولى، لأن الجمع كلما زاد حارب بعضهم بعضاً فقل الفساد كما نشاهد‏.‏

ولما أفاد هذا الدليل أنه لا يجوز أن يكون المدبر لها إلا واحداً، وأن ذلك الواحد لا يكون إلا الله قال‏:‏ ‏{‏فسبحان الله‏}‏ أي فتسبب عن ذلك تنزه المتصف بصفات الكمال ‏{‏رب العرش‏}‏ أي الذي هو نهاية المعلومات من الأجسام، ورب ما دونه من السماوات والأراضي وما فيهما المتفرد بالتدبير، كما يتفرد الملك الجالس على السرير ‏{‏عما يصفون*‏}‏ مما يوهم نقصاً ما، ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏لا يسأل‏}‏ أي من سائل ما ‏{‏عما يفعل‏}‏ أي لا يعترض عليه لأنه لا كفوء له في علم ولا حكمة ولا قدرة ولا عظمة ولا غير ذلك، فليس في شيء من أفعاله لإتقانها موضع سؤال، فمهما أراد كان ومهما قال فالحسن الجميل، فلو شاء لعذب أهل سماواته وأهل أرضه، وكان ذلك منه عدلاً حسناً، وهذا مما يتمادح به أولو الهمم العوال، كما قال عامر الخصفي في هاشم بن حرملة بن الأشعر‏:‏

أحيا أباه هاشم بن حرملة *** يوم الهباءات ويوم اليعمله

ترى الملوك عنده مغربلة *** يقتل ذا الذنب ومن لا ذنب له

قال ابن هشام في مقدمة السيرة قبل «أمر البسل» بقليل‏:‏ أنشدني أبو عبيدة هذه الأبيات وحدثني أن هاشم قال لعامر‏:‏ قل فيّ بيتاً جيداً أثبك عليه، فقال عامر البيت الأول فلم يعجب هاشماً، ثم قال البيت الثاني فلم يعجبه، ثم قال الثالث فلم يعجبه، فلما قال الرابع «ويقتل ذا الذنب ومن لا ذنب له» أعجبه فأثابه عليه، ومن أعجب ما رأيت في حكم الأقدمين أن الشهر ستاني قال في الملل‏:‏ وقد سأل بعض الدهرية أرسطاطاليس فقال‏:‏ إذا كان لم يزل ولا شيء غيره ثم أحدث العالم فلم أحدثه‏؟‏ فقال‏:‏ «لِمَ» غير جائز عليه، لأن لم تقتضي علة والعلة محمولة فيما هي علة له من معلّ فوقه ولا علة فوقه، وليس بمركب فتحمل ذاته العلل، فلم عنه منفية‏.‏ ‏{‏وهم يسألون*‏}‏ من كل سائل لما في أفعالهم من الاختلال بل يمنعون عن أكثر ما يريدون‏.‏

ولما قام الدليل، ووضح السبيل، واضمحل كل قال وقيل، فانمحقت الأباطيل، قال منبهاً لهم على ذلك‏:‏ ‏{‏أم‏}‏ أي أرجعوا عن ضلالهم لما بان لهم غيهم فيه فوحدوا الله أم ‏{‏اتخذوا‏}‏ ونبه على أن كل شيء دونه وأثبت أن آلهتهم بعض من ذلك بإثبات الجار فقال منبهاً لهم مكرراً لما مضى على وجه أعم، طالباً البرهان تلويحاً إلى التهديد‏:‏ ‏{‏من دونه ءالهة‏}‏ من السماء أو الأرض وغيرهما‏.‏

ولما كان جوابهم‏:‏ اتخذنا، ولا يرجع أمره بجوابهم فقال‏:‏ ‏{‏قل هاتوا برهانكم‏}‏ على ما ادعيتموه من عقل أو نقل كما أثبت أنا ببرهان النقل المؤد بالعقل‏.‏

ولما كان الكريم سبحانه لا يؤاخذ بمخالفة العقل ما لم ينضم إليه دليل النقل، أتبعه قوله مشيراً إلى ما بعث الله به الرسل من الكتب‏:‏ ‏{‏هذا ذكر‏}‏ أي موعظة وشرف ‏{‏من معي‏}‏ ممن آمن بي وقد ثبت أنه كلام الله بعجزكم عن معارضته فانظروا هل تجدون فيه شيئاً يؤيد أمركم ‏{‏وذكر‏}‏ أي وهذا ذكر ‏{‏من قبلي‏}‏ فاسألوا أهل الكتابين هل في الكتاب منهما برهان لكم‏.‏

ولما كانوا لا يجدون شبهة لذلك فضلاً عن حجة اقتضى الحال الإعراض عنهم غضباً، فكان كأنه قيل‏:‏ لا يجدون لشيء من ذلك برهاناً ‏{‏بل أكثرهم‏}‏ أي هؤلاء المدعوين ‏{‏لا يعلمون الحق‏}‏ بل هم جهلة والجهل أصل الشر والفساد، فهم يكفرون تقليداًُ ‏{‏فهم‏}‏ أي فتسبب عن جهلهم ما افتتحنا به السورة من أنهم ‏{‏معرضون*‏}‏ عن ذكرك وذكر من قبلك غفلة منهم عما يراد بهم وفعلاً باللعب فعلَ القاصر عن درجة العقل، وبعضهم معاند مع علمه الحق، وبعضهم يعلم فيفهم- كما أفهمه التقييد بالأكثر‏.‏

ولما كان التقدير بياناً لما في الذكرين‏:‏ ولو أقبلوا على الذكر لعلموا أنا أوحينا إليك في هذا الذكر أنه لا إله ألا أنا، ما أرسلناك إلا لنوحي إليك ذلك، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا‏}‏ أي بعظمتنا‏.‏

ولما كان الإرسال بالفعل غير مستغرق للزمان المتقدم لأنه كما أن الرسالة لا يقوم بها كل أحد، فكذلك الإرسال لا يصلح له كل زمن، أثبت الجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبلك‏}‏ وأعرق في النفي فقال‏:‏ ‏{‏من رسول‏}‏ في شيع الأولين ‏{‏إلا نوحي إليه‏}‏ من عندنا ‏{‏أنه لا إله إلا أنا‏}‏ ولم يقل‏:‏ نحن، لئلا يجعلوها وسيلة إلى شبهة، ولذا قال‏:‏ ‏{‏فاعبدون*‏}‏ بالإفراد، وترك التصريح بالأمر بالتخصيص بالعبادة لفهمه من المقام والحال، فإنهم كانوا قبل ذلك يعبدونه ولكنهم يشركون تنبيهاً على أن كل عبادة فيها شوب شرك عدم‏.‏

ولما دل على نفي مطلق الشريك عقلاً ونقلاً، فانتفى بذلك كل فرد يطلق عليه هذا الاسم، عجب من ادعائهم الشركة المقيدة بالولد، فقال عاطفاً على قوله ‏{‏وأسروا النجوى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 62‏]‏‏:‏ ‏{‏وقالوا‏}‏ قيل‏:‏ الضمير لخزاعة حيث قالوا‏:‏ الملائكة بنات الله، وقيل‏:‏ لليهود حيث قالوا‏:‏ إنه سبحانه صاهر الجن فكانت منهم الملائكة‏:‏ ‏{‏اتخذ‏}‏ أي تكلف كما يتكلف من يكون له ولد ‏{‏الرحمن‏}‏ أي الذي كل موجود من فيض نعمته ‏{‏ولداً‏}‏‏.‏

ولما كان ذلك أعظم الذنب، نزه نفسه سبحانه عنه بمجمع التنزيه فقال‏:‏ ‏{‏سبحانه‏}‏ أي تنزه عن أن يكون له ولد، فإن ذلك يقتضي المجانسة بينه وبين الولد، ولا يصح مجانسة النعمة للمنعم الحقيقي ‏{‏بل‏}‏ الذي جعلوهم له ولداً وهم الملائكة ‏{‏عباد‏}‏ من عباده، أنعم الله عليهم بالإيجاد كما أنعم على غيرهم لا أولاد، فإن العبودية تنافي الولدية ‏{‏مكرمون*‏}‏ بالعصمة من الزلل، ولذلك فسر الإكرام بقوله‏:‏ ‏{‏لا يسبقونه‏}‏ أي لا يسبقون إذنه ‏{‏بالقول‏}‏ أي بقولهم، لأنهم لا يقولون شيئاً لم يأذن لهم فيه ويطلقه لهم‏.‏

ولما كان الواقف عما لم يؤذن له فيه قد لا يفعل ما أمر به قال‏:‏ ‏{‏وهم بأمره‏}‏ أي خاصة إذا أمرهم ‏{‏يعملون*‏}‏ لا بغيره لأنهم في غاية المراقبة له فجمعوا في الطاعة بين القول والفعل وذلك غاية الطاعة؛ ثم علل إخباره بذلك بعلمه بما هذا المخبر به مندرج فيه فقال‏:‏ ‏{‏يعلم ما بين أيديهم‏}‏ أي مما لم يعملوه ‏{‏وما خلقهم‏}‏ مما عملوه، أو يكون الأول لما عملوه والثاني لما لم يعلموه، لأنك تطلع على ما قدامك ويخفى عليك ما خلفك، أي أن علمه محيط بأحوالهم ماضياً وحالاً ومآلاً، لا يخفى عليه خافية؛ ثم صرح بلازم الجملة الأولى فقال‏:‏ ‏{‏ولا يشفعون‏}‏ أي في الدنيا ولا في الآخرة ‏{‏إلا لمن ارتضى‏}‏ فلا تطمعوا في شفاعتهم لكم بغير رضاه، وبلازم الجملة الثانية فقال‏:‏ ‏{‏وهم من خشيته‏}‏ أي لا من غيرها ‏{‏مشفقون*‏}‏ أي دائماً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 31‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ‏(‏29‏)‏ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏30‏)‏ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

ولما نفى الشريك مطلقاً ثم مقيداً بالولدية، أتبعه التهديد على ادعائه بتعذيب المتبوع الموجب لتعذيب التابع فقال‏:‏ ‏{‏ومن يقل منهم‏}‏ أي من كل من قام الدليل على أنه لا يصلح للإلهية حتى العباد المكرمون الذين وصف كرامتهم وقرب منزلتهم عنده وأثنى عليهم كما رواه البيهقي في الخصائص من الدلائل عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ‏{‏إني إله‏}‏ ولما كانت الرتب التي تحت رتبة الإلهية كثيرة، بعّض ليدل على من استغرق بطريق الأولى فقال‏:‏ ‏{‏من دونه‏}‏ أي من دون الله ‏{‏فذلك‏}‏ أي اللعين الذي لا يصلح للتقريب أصلاً ما دام على ذلك ‏{‏نجزيه‏}‏ أي بعظمتنا ‏{‏جهنم‏}‏ لظلمه، فأفهم تعذيب مدعي الشرك تعذيب أتباعه من باب الأولى، وهو على سبيل الفرض والتمثيل في الملائكة من إحاطة علمه بأنه لا يكون، وما ذاك إلا لقصد تفظيع أمر الشرك وتعظيم شأن التوحيد، وفي دلائل النبوة للبيهقي في باب التحدث بالنعمة والخصائص أن هذه الآية مع قوله تعالى ‏{‏ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 2‏]‏ دليل على فضله صلى الله عليه وسلم على أهل السماء‏.‏

ولما كان مقتضياً للسؤال عن غير هذا من الظلمة، قيل‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل هذا الجزاء الفظيع جداً ‏{‏نجزي الظالمين*‏}‏ كلهم ما داموا على ظلمهم‏.‏

ولما أنكر سبحانه اتخاذهم آلهة من دونه تارة بقيد كونها أرضية، وتارة بقيد كونها سماوية، وتارة مطلقة، لتعم كلا من القسمين وغيرهما، واستدل على ذلك كله بما لم تبق معه شبهة، فدل تفرده على أنه لا مانع له مما يريد من بعث ولاغيره، وكان علمهم لا يتجاوز ما في السماوات والأرض، قال مستدلاً على ذلك أيضاً مقرراً بما يعلمونه، أو ينبغي أن يسألوا عنه حتى يعلموه لتمكنهم من ذلك ‏{‏فاسألوا أهل الذكر‏}‏ جلياً له في أسلوب العظمة‏:‏ ‏{‏أولم‏}‏ أي ألم يعلموا ذلك بما أوضحنا من أدلته ولم يروا، ولكنه أظهر للدلالة على أنهم يغطون أنوار الدلائل عناداً فقال‏:‏ ‏{‏ير‏}‏ أي يعلم علماً هو كالمشاهدة ‏{‏الذين كفروا‏}‏ أي ستروا ما يعلمون من قدرة الله فأدى ذلك إلى الاستهانة والتنقص فصار ذنبهم غير مغفور، وسعيهم غير مشكور، وحذف ابن كثير الواو العاطفة على ما قدرته مما هدى إليه السياق أيضاً، لا للاستفهام بما دل عليه ختام الآية التي قبل من البعث والجزاء المقتضي للإنكار على من أنكره، فكان المعنى على قراءته‏:‏ نجزي كل ظالم بعد البعث، ألم ير المنكرون لذلك قدرتنا عليه بما أبدعنا من الخلائق، وإنما أنكر عليهم عدم الرؤية بسبب أن الأجسام وإن تباينت لا ينفصل بعضها عن بعض إلا بقادر يفصل بينها، فمن البديهي الاستحالة أن يرتفع شيء منها عن الآخر منفصلاً عنه بغير رافع لا سيما إذا كان المرتفع ثابتاً من غير عماد، فكيف وهو عظيم الجسم كبير الجرم‏؟‏ وذلك دال على تمام القدرة والاختيار والتنزه عن كل شائبة نقص من مكافئ وغيره، فصح الإنكار عليهم في عدم علم ذلك بسبب أنهم عملوا بخلاف ما يعلمونه ‏{‏أن السماوات والأرض‏}‏‏.‏

ولما كان المراد الإخبار عن الجماعتين لا عن الأفراد قال‏:‏ ‏{‏كانتا‏}‏ ولما كان المراد شدة الاتصال والتلاحم، أخبر عن ذلك بمصدر مفرد وضع موضع الاسم فقال‏:‏ ‏{‏رتقاً‏}‏ أي ملتزقتين زبدة واحدة على وجه الماء، والرتق في اللغة‏:‏ السد، الفتق‏:‏ الشق ‏{‏ففتقناهما‏}‏ أي بعظمتنا أي بأن ميزنا إحداهما عن الأخرى بعد التكوين المتقن وفتقنا السماء بالمطر، والأرض بأنواع النبات بعد أن لم يكن شيء من ذلك، ولا كان مقدوراً على شيء منه لأحد غيرنا؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما وعطاء والضحاك وقتادة‏:‏ كانتا شيئاً واحداً ملتزقتين ففضل الله تعالى بينهما بالهواء‏.‏ وعن مجاهد وأبي صالح والسدي‏:‏ كانتا مؤتلفة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع سماوات، وكذلك الأرض كانت مرتتقة واحدة ففتقها فجعلها سبع طبقات‏.‏

ولما كان خلق الماء سابقاً على خلق السماوات والأرض، قال‏:‏ ‏{‏وجعلنا‏}‏ أي بما اقتضته عظمتنا ‏{‏من الماء‏}‏ أي الهامر ثم الدافق ‏{‏كل شيء حي‏}‏ مجازاً من النبات وحقيقة من الحيوان، خرج الإمام أحمد وغيره «عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أخبرني عن كل شيء، فقال‏:‏ كل شيء خلق من ماء» ولذلك أجاب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الذي وجده على ماء بدر وسأله‏:‏ ممن هو‏؟‏ بقوله‏:‏ «نحن من ماء»‏.‏

ولما كان هذا من تصرفه في هذين الكونين ظاهراً ومنتجاً لأنهما وكل فيهما ومن فيهما بصفة العجز عن أن يكون له تصرف ما، تسبب عنه إنكار عدم إيمانهم فقال‏:‏ ‏{‏أفلا يؤمنون*‏}‏ أي بأن شيئاً منهما أو فيهما لا يصلح للإلهية، لا على وجه الشركة ولا على وجه الانفراد، وبأن صانعهما ومبدع النامي من حيوان ونبات منهما بواسطة الماء قادر على البعث للحساب للثواب أو العقاب، بعد أن صار الميت تراباً بماء يسببه لذلك‏.‏

ولما كان من القدرة الباهرة ثبات الأرض من غير حركة، وكان الماء أدل دليل على ثباتها، وكانت الأرض أقرب في الذكر من السماء، أتبع ذلك قوله‏:‏ ‏{‏وجعلنا‏}‏ بما لنا من العظمة ‏{‏في الأرض‏}‏ جبالاً ‏{‏رواسي‏}‏ أي ثوابت، كراهة ‏{‏أن تميد بهم‏}‏ وتضطرب فتهلك المياه كل شيء حي فيعود نفعها ضراً وخيرها شراً‏.‏

ولما كان المراد من المراسي الشدة والحزونة لتقوى على الثبات والتثبيت، وكان ذلك مقتضياً لإبعادها وحفظها عن الذلة والليونة، بين أنه أخرق فيها العادة ليعلم أنه قادر مختار لكل ما يريد فقال‏:‏ ‏{‏وجعلنا‏}‏ بما لنا من القدرة الباهرة والحكمة البالغة ‏{‏فيها‏}‏ أي الجبال مع حزونتها ‏{‏فجاجاً‏}‏ أي مسالك واسعة سهلة؛ ثم أبدل منها قوله‏:‏ ‏{‏سبلاً‏}‏ أي مذللة للسلوك، ولولا ذلك لتعسر أو تعذر الوصول إلى بعض البلاد ‏{‏لعلهم يهتدون*‏}‏ إلى منافعهم في ديارهم وغيرها، وإلى ما فيها من دلائل الوحدانية وغيرها فيعلموا أن وجودها لو كان بالطبيعة كانت على نمط واحد مساوية للأرض متساوية في الوصف، وأن كونها على غير ذلك دال على أن صانعها قادر مختار متفرد بأوصاف الكمال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 35‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ‏(‏32‏)‏ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ‏(‏33‏)‏ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ‏(‏34‏)‏ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

ولما دلهم بالسماوات والأرض على عظمته، ثم فصل بعض ما في الأرض لملابستهم له، وخص الجبال لكثرتها في بلادهم، أتبعه السماء فقال‏:‏ ‏{‏وجعلنا‏}‏ أي بعظمتنا ‏{‏السماء‏}‏ وأفردها بإرادة الجنس لأن أكثر الناس لا يشاهدون منها إلا الدنيا ولأن الحفظ للشيء الواحد أتقن ‏{‏سقفاً‏}‏ أي للأرض لا فرق بينها وبين ما يعهد من السقوف إلا أن ما يعهد لا يسقط منه إلا ما يضر، وهذه مشحونة بالمنافع فأكثر ما ينزل منها ما لا غنى للناس عنه من الآت الضياء وعلامات الاهتداء والزينة التي لا يقدر قدرها‏.‏

ولما كان ما يعرفون من السقوف على صغرها لا تثبت إلا بالعمد، ويتمكن منه المفسدون، وتحتاج كل قليل إلى إصلاح وتعهد، بين أن هذا السقف على سعته وعلوه على غير ذلك فقال‏:‏ ‏{‏محفوظاً‏}‏ أي عن السقوط بالقدرة وعن الشياطين بالشهب، فذكّر باعتبار السقف، وأشار إلى كثرة ما حوى من الآيات مؤنثاً باعتبار السماء أو العدد الدال عليه الجنس، لأن العدد أولى بالدلالة على كثرة الآيات والنجوم مفرقة في الكل فقال‏:‏ ‏{‏وهم‏}‏ أي أكثر الناس ‏{‏عن آياتها‏}‏ أي من الكواكب الكبار والصغار، والرياح والأمطار، وغير ذلك من الدلائل التي تفوت الانحصار، أي الدالة على قدرتنا على كل ما نريد من البعث وغيره وعلى عظمتنا بالتفرد بالإلهية وغير ذلك من أوصاف الكمال، من الجلال والجمال ‏{‏معرضون*‏}‏ لا يتفكرون فيما فيها من التسيير والتدبير بالمطالع والمغارب والترتيب القويم الدال على الحساب الدائر عليه سائر المنافع‏.‏

ولما ذكر السماء، ذكر ما ينشاء عنها فقال‏:‏ ‏{‏وهو‏}‏ أي لا غيره ‏{‏الذي خلق الّيل والنهار‏}‏ ثم أتبعهما آيتيهما فقال‏:‏ ‏{‏والشمس‏}‏ التي هي آية النهار وبها وجوده ‏{‏والقمر‏}‏ الذي هو آية الليل‏.‏ ولما ذكر أعظم آياتها فأفهم بقية الكواكب، استأنف لمن كأنه قال‏:‏ هل هي كلها في سماء واحدة‏؟‏‏:‏ ‏{‏كل‏}‏ أي من ذلك ‏{‏في فلك‏}‏ فكأنه قيل‏:‏ ماذا تصنع‏؟‏ فقيل تغليباً لضمير العقلاء‏.‏‏.‏‏.‏ ونقلهم إليها‏:‏ ‏{‏يسبحون*‏}‏ أي كل واحد يسبح في الفلك الذي جعل به‏.‏

ولما ذكر الصارم البتار، للأعمار الطوال والقصار، من الليل والنهار، كان كأنه قيل‏:‏ فيفنيان كل شديد، ويبليان كل جديد، فعطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وما جعلنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة التي اقتضت تفردنا بالبقاء ‏{‏لبشر‏}‏ وحقق عدم هذا الجعل بإثبات الجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبلك الخلد‏}‏ ناظراً إلى قوله ‏{‏وما كانوا خالدين‏}‏ بعد قوله ‏{‏هل هذا إلا بشر مثلكم‏}‏ وهذا من أقوى الأدلة على أن الخضر عليه السلام مات، ويجاب بأن الحياة الطويلة ليست خلداً كما في حق عيسى عليه السلام، لكن قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض بعد اليوم»

وقوله‏:‏ «» لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو على ظهر الأرض اليوم أحد «وقوله‏:‏» «وددنا أن موسى عليه السلام صبر فقص علينا من أمرهما» في أمثال ذلك، يدل على موته دلالة لا تقبل ادعاء حياته بعدها إلا بأظهر منه‏.‏

ولما كان قولهم ‏{‏بل هو شاعر‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 5‏]‏ مشيراً إلى أنهم قالوا نتربص به ريب المنون كما اتفق لغيره من الشعراء، وكان ينبغي أن لا ينتظر أحد لآخر من الأذى إلا ما يتحقق سلامته هو منه، توجه الإنكار عليهم والتسلية له بمنع شماتتهم في قوله‏:‏ ‏{‏أفائن‏}‏ أي أيتمنون موتك فإن ‏{‏مت فهم‏}‏ أي خاصة ‏{‏الخالدون*‏}‏ فالمنكر تقدير خلودهم على تقدير موته الموجب لإنكار تمنيهم لموته، فحق الهمزة دخولها على الجزاء، وهو فهم، وإنما قارنت الشرط لأن الاستفهام له الصدر‏.‏

ولما تم ذلك، أنتج قطعاً‏:‏ ‏{‏كل نفس‏}‏ أي منكم ومن غيركم ‏{‏ذائقة الموت‏}‏ أي فلا يفرح أحد ولا يحزن بموت أحد، بل يشتغل بما يهمه، وإليه الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ونبلوكم‏}‏ أي نعاملكم معاملة المبتلي المختبر المظهر في عالم الشهادة الشاكر والصابر والمؤمن والكافر كما هو عندنا في علام الغيب بأن نخالطكم ‏{‏بالشر‏}‏ الذي هو طبع النفوس، فهي أسرع شيء إليه، فلا ينجو منه إلا من أخلصناه لنا ‏{‏والخير‏}‏ مخالطة كبيرة، وأكد البلاء بمصدر من معناه مقرون بالهاء تعظيماً له فقال‏:‏ ‏{‏فتنة‏}‏ أي كما يفتن الذهب إذا أريدت تصفيته بمخالطة النار له، على حالة عظيمة محيلة مميلة لكم لا يثبت لها إلا الموفق ‏{‏وإلينا‏}‏ أي بعد الموت لا إلى غيرنا ‏{‏ترجعون*‏}‏ للجزاء حيث لا حكم لأحد أصلاً لا ظاهراً ولا باطناً كما هذه الدار بنفوذ الحكم فلا يكون إلا ما نريد فاشتغلوا بما ينجيكم منا، ولا تلتفتوا إلى غيره، فإن الأمر صعب، وجدوا فإن الحال جد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 40‏]‏

‏{‏وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏36‏)‏ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ ‏(‏37‏)‏ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏38‏)‏ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏39‏)‏ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

ولما أخبر سبحانه عن إعراضهم عن الساعة تكذيباً، واستدل على كونها منزهة عن الغيب في خلق هذا العالم وتعاليه عن جميع صفات النقص واتصافه بأوصاف الكمال إلى أن ختم ذلك بمثل ما ابتدأ به على وجه أصرح، وكان فيه تنبيههم على الابتلاء وكان الابتلاء على قدر النعم، فكان صلى الله عليه وسلم أعظم شيء ابتلوا به لأنه لا نعمة أعظم من النعمة به، ولا شيء أظهر من آياته عطف على قوله «وأسروا النجوى» قوله‏:‏ ‏{‏وإذا رءاك‏}‏ أي وأنت أشرف الخلق وكلك جد وجلال وعظمة وكمال ‏{‏الذين كفروا‏}‏ فأظهر منبهاً على أن ظلمهم الذي أوجب لهم ذلك هو الكفر وإن كان في أدنى رتبة، تبشيعاً له وتنبيهاً على أنه يطمس الفكر مطلقاً‏.‏

ولما كان من المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم في غاية البعد عن الهزء، قال منبهاً على أنهم أعرقوا في الكفر حتى بلغوا الذروة‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏يتخذونك‏}‏ أي حال الرؤية، وسيعلم من يبقى منهم عما قليل أنك جد كلك ‏{‏إلا هزواً‏}‏ أي جعلوك بحمل أنفسهم على ضد ما يعتقد عين ما ليس فيك شيء منه؛ ثم بين استزاءهم به بأنهم يقولون إنكاراً واستصغاراً‏:‏ ‏{‏أهذ الذي يذكر‏}‏ أي بالسوء ‏{‏ءالهتكم‏}‏ قال أبو حيان‏:‏ والذكر يكون بالخير والشر، فإذا لم يذكر متعلقه فالقرينة تدل عليه- انتهى‏.‏ فإذا دلت القرينة على أحدهما أطلق عليه ‏{‏وهم‏}‏ أي والحال أنهم على حال كانوا بها أصلاً في الهزء، وهي أنهم ‏{‏بذكر الرحمن‏}‏ الذي لا نعمة عليهم ولا على غيرهم إلا منه، وكرر الضمير تعظيماً بما أتوا به من القباحة فقال‏:‏ ‏{‏هم‏}‏ أي بظواهرهم وبواطنهم ‏{‏كافرون‏}‏ أي ساترون لمعرفتهم به، فلا أعجب ممن هو محل للهزء لكونه أنكر ذكر من لا نعمة منه ولا نقمة أصلاً بالسوء، وهو يذكر من كل نعمة منه بالسوء ويهزأ به‏.‏

ولما كان من آيات الأولين التي طلبوها العذاب بأنواع الهول، وكانوا هم أيضاً قد طلبوا ذلك واستعجلوا به ‏{‏عجل لنا قطنا‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 26‏]‏ ونحو ذلك، وكان الذي جرأهم على هذا حلم الله عنهم بإمهاله لهم، قال معللاً لذلك‏:‏ ‏{‏خلق‏}‏ وبناه للمفعول لأن المقصود بيان ما جبل عليه والخالق معروف ‏{‏الإنسان‏}‏ أي هذا النوع‏.‏

ولما كان مطبوعاً على العجلة قال‏:‏ ‏{‏من عجل‏}‏ فلذا يكفر، لأنه إذا خولف بادر إلى الانتقام عند القدرة فظن بجهله أن خالقه كذلك، وأن التأخير ما هو إلا عن عجز أو عن رضى؛ ثم قال تعالى مهدداً للمكذبين‏:‏ ‏{‏سأوريكم‏}‏ حقاً ‏{‏ءاياتي‏}‏ القاصمة والعاصمة، بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم ومن عندكم من أتباعه المستضعفين وخلافتهم بين أيديكم وجعلهم شجاً في حلوقكم حتى يتلاشى ما أنتم عليه وغيره ذلك من العظائم ‏{‏فلا تستعجلون*‏}‏ أي تطلبوا أن أوجد العجلة بالعذاب أو غيره، فإني منزه عن العجلة التي هي من جملة نقائصكم‏.‏

ولما ذم العجلة وهي إرادة الشيء قبل أوانه، ونهى عنها، قال دالاً عليها عاطفاً على عامل ‏{‏هذا‏}‏‏:‏ ‏{‏ويقولون‏}‏ أي في استهزائهم بأولياء الله‏:‏ ‏{‏متى هذا‏}‏ وتهكموا بقولهم‏:‏ ‏{‏الوعد‏}‏ أي بإتيان الآيات من الساعة ومقدماتها وغيرها، وزادوا في الإلهاب والتهييج تكذيباً فقالوا‏:‏ ‏{‏إن كنتم صادقين*‏}‏ أي عريقين في هذا الوصف جداً- بما دل عليه الوصف وفعل الكون‏.‏

ولما غلوا في الاستهزاء فكانوا أجهل الجهلة باستحالة الممكن، استأنف الجواب عن كلامهم بنفي العلم عنهم في الحال والمآل دون المعاينة على طريق التهكم والاستهزاء بهم‏:‏ ‏{‏لو يعلم الذين كفروا‏}‏ وذكر المفعول به فقال‏:‏ ‏{‏حين‏}‏ أي لو تجدد لهم علم ما بالوقت الذي يستعجلون به؛ وذكر ما أضيف إليه ذلك الوقت فقال‏:‏ ‏{‏لا يكفون‏}‏ أي فيه بأنفسهم ‏{‏عن وجوههم‏}‏ التي هي أشرف أعضائهم ‏{‏النار‏}‏ استسلاماً وضعفاً وعجزاً ‏{‏ولا عن ظهورهم‏}‏ التي هي أشد أجسادهم، فعرف من هذا أنها قد أحاطت بهم وأنهم لا يكفون عن غير هذين من باب الأولى ‏{‏ولا هم ينصرون*‏}‏ أي ولا يتجدد لهم نصر ظاهراً ولا باطناً بأنفسهم ولا بغيرهم، لم يقولوا شيئاً من ذلك الكفر والاستهزاء والاستعجال، ولكنهم لا يعلمون ذلك بنوع من أنواع العلم إلا عند الوقوع لأنه لا أمارة لها قاطعة بتعيين وقتها ولا تأتي بالتدريج كغيرها، وهذا معنى ‏{‏بل تأتيهم‏}‏ أي الساعة التي هي ظرف لجميع تلك الأحوال وهي معلومة لكل أحد فهي مستحضرة في كل ذهن ‏{‏بغتة فتبهتهم‏}‏ أي تدعهم باهتين حائرين؛ ثم سبب عن بهتهم قوله‏:‏ ‏{‏فلا يستطيعون ردها‏}‏ أي لا يطلبون طوع ذلك لهم في ذلك الوقت ليأسهم عنه ‏{‏ولا هم ينظرون*‏}‏ أي يمهلون من ممهل ما ليتداركوا ما أعد لهم فيها، فيا شدة أسفهم على التفريط في الأوقات التي أمهلوا فيها في هذه الدار، وصرفهم إياها في لذات أكثرها أكدار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 44‏]‏

‏{‏وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏41‏)‏ قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏42‏)‏ أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ ‏(‏43‏)‏ بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

ولما كان التقدير حاق بهم هذا باستهزائهم بك، تبعه ما يدل على أن الرسل في ذلك شرع واحد، تسلية له صلى الله عليه وسلم وتأسية، فقال عاطفاً على ‏{‏وإذا رءاك‏}‏‏:‏ ‏{‏ولقد‏}‏ مؤكداً له لمزيد التسلية بمساواة إخوانه من الرسل وبتعذيب أعدائه‏.‏ ولما كان المخوف نفس الاستهزاء لا كونه من معين، بني للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏استهزئ برسل‏}‏ أي كثيرين‏.‏

ولما كان معنى التنكير عدم الاستغراق، أكده بالخافض فقال‏:‏ ‏{‏من قبلك فحاق‏}‏ أي فأحاط ‏{‏بالذين سخروا منهم‏}‏ لكفرهم ‏{‏ما كانوا‏}‏ بما هو لهم كالجبلة ‏{‏به يستهزءون*‏}‏ من الوعود الصادقة كبعض من سألوه الإتيان بمثل آياتهم كقوم نوح ومن بعدهم‏.‏

ولما هددهم بما مضى مما قام الدليل على قدرته عليه، وختمه- لوقوفهم مع المحسوسات- بما وقع لمن قبلهم، وكان الأمان عن مثل ذلك لا يكون إلا بشيء يوثق به، أمره أن يسألهم عن ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏قل من يكلؤكم‏}‏ أي يحفظكم ويؤخركم ويكثر رزقكم، وهو استفهام توبيخ‏.‏

ولما استوى بالنسبة إلى قدرته حذرهم وغفلتهم، قال‏:‏ ‏{‏بالّيل‏}‏ أي وأنتم نائمون‏.‏ ولما كانت مدافعة عذابه سبحانه غير ممكنة لنائم ولا يقظان قال‏:‏ ‏{‏والنهار‏}‏ أي وأنتم مستيقظون‏.‏ ولما كان لا منعم بكلاية ولا غيرها سواه سبحانه، ذكرهم بذلك بصفة الرحمة فقال‏:‏ ‏{‏من الرحمن‏}‏ الذي لا نعمة بحراسة ولا غيرها إلا منه حتى أمنتم مكره ولو بقطع إحسانه، فكيف إذا ضربتم بسوط جبروته وسطوة قهرة وعظموته‏.‏

ولما كان الجواب قطعاً‏:‏ ليس لهم من يكلؤهم منه وهو معنى الاستفهام الإنكاري، قال مضرباً عنه‏:‏ ‏{‏بل هم‏}‏ أي في أمنهم من سطواته ‏{‏عن ذكر ربهم‏}‏ الذي لا يحسن إليهم غيره ‏{‏معرضون*‏}‏ فهم لا يذكرون أصلاً فضلاً عن أن يخشوا بأسه وهم يدعون أنهم أشكر الناس للإحسان‏.‏

ولما أرشد السياق إلى أن التقدير‏:‏ أصحيح هذا الذي أشرنا إليه من أنه لا مانع لهم منا، عادله بقوله إنكاراً عليهم‏:‏ ‏{‏أم لهم ءالهة‏}‏ موصوفة بأنها ‏{‏تمنعهم‏}‏ نوبَ الدهر‏.‏ ولما كانت جميع الرتب تحت رتبته سبحانه، أثبت حرف الابتداء فقال محقراً لهم‏:‏ ‏{‏من دوننا‏}‏ أي من مكروه هو تحت إرادتنا ومن جهة غير جهتنا‏.‏

ولما كان الجواب قطعاً‏:‏ ليس لهم ذلك، وهو بمعنى الاستفهام، استأنف الإخبار بما يؤيد هذا الجواب، ويجوز أن يكون تعليلاً، فقال‏:‏ ‏{‏لا يستطيعون‏}‏ أي الآلهة التي يزعمون أنها تنفعهم، أو هم- لأنهم لا مانع لهم من دوننا- ‏{‏نصر أنفسهم‏}‏ من دون إرادتنا فكيف بغيرهم، أو يكون ذلك صفة الآلهة على طريق التهكم ‏{‏ولا هم‏}‏ أي الكفار أو الآلهة ‏{‏منا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏يصحبون*‏}‏ بوجه من وجوه الصحبة حتى يصير لهم استطاعة بنا، فانسدت عليهم أبواب الاستطاعة أصلاً ورأساً‏.‏

ولما لم يصلح هذا لأن يكون سبباً لاجترائهم، أضرب عنه قائلاً في مظهر العظمة، إشارة إلى أن اغترارهم به سبحانه- مع ما له من دلائل الجلال- من أعجب العجب، بانياً على نحو «لا كالئ لهم منه ولا مانع»‏:‏ ‏{‏بل متعنا‏}‏ أي بعظمتنا ‏{‏هؤلاء‏}‏ أي الكفار على حقارتهم، أو الإضراب عن عدم استطاعتهم للنصر، والمعنى أن ما هم فيه من الحفظ إنما هو منا لأجل تمتيعهم بما لا يتغير به إلا مغرور، لا من مانع يمنعهم ‏{‏وءاباءهم‏}‏ من قبلهم بالنصر وغيره ‏{‏حتى طال عليهم العمر‏}‏ فكان طول سلامتهم غاراً لهم بنا، فظنوا أنه لا يغلبهم على ذلك التمتيع شيء، ولا ينزع عنهم ثوب النعمة‏.‏

ولما أقام الأدلة ونصب الحجج على أنه لا مانع لهم من الله، تسبب عن ذلك الإنكار عليهم في اعتقاد غيره فقال‏:‏ ‏{‏أفلا يرون‏}‏ أي يعلمون علماً هو في وضوحه مثل الرؤية بالبصر ‏{‏أنا‏}‏ بما لنا من العظمة، وصور ما كان يجريه من عظمته على أيدي أوليائه فقال‏:‏ ‏{‏نأتي الأرض‏}‏ أي التي أهلها كفار، إتيانَ غلبة لهم بتسليط أوليائنا عليهم‏.‏

ولما كان الإتيان على ضروب شتى، بيّنه بقوله‏:‏ ‏{‏ننقصها من أطرافها‏}‏ بقتل بعضهم وردّ من بقي عن دينه إلى الإسلام، فهم في نقص، وأولياؤنا في زيادة‏.‏

ولما كانت مشاهدتهم لهذا مرة بعد مرة قاضية بأنهم المغلبون، تسبب عنه إنكار غير ذلك فقال‏:‏ ‏{‏أفهم‏}‏ أي خاصة ‏{‏الغالبون*‏}‏ أي مع مشاهدتهم لذلك أم أولياؤنا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 50‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ ‏(‏45‏)‏ وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏46‏)‏ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ‏(‏47‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏48‏)‏ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ‏(‏49‏)‏ وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

ولما تبين الخلف في قولهم على كثرته وادعائهم الحكمة والبلاغة، وفعلهم على كثرتهم وزعمهم القوة والشجاعة، ثبت أن أقواله الناقضة لذلك من عند الله بما ثبت من استقامة معانيها وإحكامها، بعدما اتضح من إعجاز نظومها وحسن التئامها، فأمره أن يبين لهم ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏قل إنما أنذركم‏}‏ أيها الكفار ‏{‏بالوحي‏}‏ أي الآتي به الملك عن الله فلا قدح في شيء من نظمه ولا معناه والحال أنكم لا تسمعون- على قراءة الجماعة والحال أنك لا تسمعهم- على قراءة ابن عامر بضم الفوقانية وكسر الميم ونصب الصم خاصة، ولكنهم لما كانوا لا ينتفعون بإنذاره لتصامّهم وجعلهم أصابعهم في آذانهم وقت الإنذار عدهم صماً، وأظهر الوصف لتعليق الحكم به فقال‏:‏ ‏{‏ولا يسمع الصم الدعاء‏}‏ أي ممن يدعوهم، أو يكون معطوفاً على ما تقديره‏:‏ فإن كانت أسماعكم صحيحة سمعتم فأجبتم، ونبه بقوله‏:‏ ‏{‏إذا ما ينذرون*‏}‏ على أن المانع لهم مع الصمم كراهة الإنذار، وبالبناء للمفعول على منذر‏.‏

ولما كان المنذر لا يترك الاستعداد لما ينذر به من العذاب إلا إذا كان قوياً على دفعه‏.‏ بيّن أنهم على غير ذلك فقال‏:‏ ‏{‏ولئن‏}‏ أي لا يسمعون والحال أنه لا قوة بهم، بل إن ‏{‏مستهم‏}‏ أي لاقتهم أدنى ملاقاة ‏{‏نفحة‏}‏ أي رائحة يسيرة مرة من المرات ‏{‏من عذاب ربك‏}‏ المحسن إليك بنصرك عليهم ‏{‏ليقولن‏}‏ وقد أذهلهم أمرها عن نخوتهم‏.‏ وشغلهم قدرها عن كبرهم وحميتهم‏:‏ ‏{‏يا ويلنا‏}‏ الذي لا نرى الآن بحضرتنا غيره ‏{‏إنا كنا‏}‏ أي بما لنا مما هو في ثباته كالجبلات ‏{‏ظالمين*‏}‏ أي عريقين في الظلم في إعراضنا وتصامّنا ترفقاً وتذللاً لعله يكف عنهم‏.‏

ولما بيّن ما افتتحت السورة من اقتراب الساعة بالقدرة عليه واقتضاء الحكمة له، وأن كل أحد ميت لا يستطيع شيئاً من الدفع عن نفسه فضلاً عن غيره، وختمت الآيات بإقرار الظالم بظلمه، وكانت عادة كثير من الناس الجور عند القدرة، بين أنه سبحانه بخلاف ذلك فذكر بعض ما يفعل في حساب الساعة من العدل فقال عاطفاً على قوله ‏{‏بل تأتيهم بغتة‏}‏‏:‏ ‏{‏ونضع‏}‏ فأبرزه في مظهر العظمة إشارة إلى هوانه عنده وإن كان لكثرة الخلائق وأعمال كل منهم متعذراً عندنا ‏{‏الموازين‏}‏ المتعددة لتعدد الموزونات أو أنواعها‏.‏ ولما كانت الموازين آلة العدل، وصفها به مبالغة فقال ‏{‏القسط‏}‏ أي العدل المميز للأقسام على السوية‏.‏

ولما كان الجزاء علة في وضع المقادير، عبر باللام ليشمل- مع ما يوضع فيه- ما وضع الآن لأجل الدنيوية فيه فقال‏:‏ ‏{‏ليوم القيامة‏}‏ الذي أنتم عنه- لإعراضكم عن الذكر- غافلون‏.‏ ولما جرت العادة بأن الملك قد يكون عادلاً فظلم بعض أتباعه، بين أن عظمته في إحاطة علمه وقدرته تأبى ذلك، فبنى الفعل للمجهول فقال‏:‏ ‏{‏فلا‏}‏ أي فتسبب عن هذا الوضع أنه لا ‏{‏تظلم‏}‏ أي من ظالم ما ‏{‏نفس شيئاً‏}‏ من عملها ‏{‏وإن كان‏}‏ أي العمل ‏{‏مثقال حبة‏}‏ هذا على قراءة الجماعة بالنصب‏.‏

والتقدير على قراءة نافع بالرفع‏:‏ وإن وقع أو وجد ‏{‏من خردل‏}‏ أو أحقر منه، وإنما مثل به لأنه غاية عندنا في القلة، وزاد في تحقيره بضمير التأنيث لإضافته إلى المؤنث فقال‏:‏ ‏{‏أتينا بها‏}‏ بما لنا من العظمة في العلم والقدرة وجميع صفات الكمال فحاسبناه عليها، والميزان الحقيقي‏.‏ ووزن الأعمال على صفة يصح وزنها معها بقدرة من لا يعجزه شيء‏.‏

ولما كان حساب الخلائق كلهم على ما صدر منهم أمراً باهراً للعقل، حقره عند عظمته فقال‏:‏ ‏{‏وكفى بنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏حاسبين*‏}‏ أي لا يكون في الحساب أحد مثلنا، ففيه توعد من جهة أن معناه أنه لا يروج عليه شيء من خداع ولا يقبل غلطاً، ولا يضل ولا ينسى، إلى غير ذلك من كل ما يلزم منه نوع لبس أو شوب نقص، ووعد من جهة أنه لا يطلع على كل حسن فقيد وإن دق وخفي‏.‏

ولما قدم في قوله ‏{‏ما يأتيهم من ذكر من ربهم‏}‏- الآية وغيره أنهم أعرضوا عن هذا الذكر تعللاً بأشياء منها طلب آيات الأولين، ونبه على إفراطهم في الجهل بما ردوا من الشرف بقوله ‏{‏لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم‏}‏ ومر إلى أن ختم بالتهديد بعذابه، وأنه يحكم بالقسط، وكان كتاب موسى عليه السلام بعد القرآن أعظم الكتب السماوية، وكان أهل الكتاب قد أعرضوا عنه غير مرة على زمن موسى عليه السلام بعبادة العجل وغيره وبعد موته مع كون المرسل، به اثنان تعاضدا على إبلاغه وتقرير أحكامه بعد أن بهرا العقول بما أتيا به من الآيات التي منها- كما بين في سورة البقرة والأعراف- التصرف في العناصر الأربعة التي هي أصل الحيوان الذي بدأ الله منها خلقه‏.‏ ومقصود السورة الدلالة على إعادته، ومنها ما عذب به من أعرض عن ذكر موسى وهارون عليهما السلام الذي هو ميزان العدل لما نشر من الضياء المورث للتبصرة الماحقة للظلام، فلا يقع متبعه في ظلم، وكان الحساب تفصيل الأمور ومقابلة كل منها بما يليق به، وذلك بعينه هو الفرقان، قال سبحانه بعد آية الحساب عاطفاً على «لقد أنزلنا»‏:‏ ‏{‏ولقد ءاتينا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏موسى وهارون‏}‏ أي أخاه الذي سأل أن يشد أزره به ‏{‏الفرقان‏}‏ الذي تعاضدا على إبلاغه والإلزام بما دعا إليه حال لكونه مبيناً لسعادة الدارين، لا يدع لبساً في أمر من الأمور ‏{‏وضياء‏}‏ لا ظلام معه، فلا ظلم للمستبصر به، لأن من شأن من كان في الضياء أن لا يضع شيئاً إلا في موضعه ‏{‏وذكراً‏}‏ أي وعظاً وشرفاً‏.‏

ولما كان من لا ينتفع بالشيء لا يكون له منه شيء، قال‏:‏ ‏{‏للمتقين*‏}‏ أي الذين صار هذا الوصف لهم شعاراً حاملاً لهم على التذكير لما يدعو إليه الكتاب من التوحيد الذي هو أصل المراقبة؛ ثم بين التقوى بوصفهم بقوله‏:‏ ‏{‏الذين يخشون‏}‏ أي يخافون خوفاً عظيماً ‏{‏ربهم‏}‏ أي المحسن إليهم بعد الإيجاد بالتربية وأنواع الإحسان ‏{‏بالغيب‏}‏ أي في أن يكشف لهم الحجاب ‏{‏وهم من الساعة‏}‏ التي نضع فيها الموازين وقد أعرض عنها الجاهلون مع كونها أعظم حامل على كل خير، مبعد من كل ضير ‏{‏مشفقون*‏}‏ لأنهم لقيامها متحققون، وبنصب الموازين فيها عالمون‏.‏

ولما ذكر فرقان موسى عليه السلام، وكان العرب يشاهدون إظهار اليهود للتمسك به والمقاتلة على ذلك والاغتباط، حثهم على كتابهم الذي هو أشرف منه فقال‏:‏ ‏{‏وهذا‏}‏ فأشار إليه بأداة القرب إيماء إلى سهولة تناوله عليهم ‏{‏ذكر‏}‏ أي عظيم، ودلهم على أنه أثبت الكتب وأكثرها فوائد بقوله‏:‏ ‏{‏مبارك‏}‏ ودلهم على زيادة عظمته بما له من قرب الفهم والإعجاز وغيره بقوله‏:‏ ‏{‏أنزلناه‏}‏ ثم أنكر عليهم رد ووبخهم في سياق دال على أنهم أقل من أن يجترئوا على ذلك، منبه على أنهم أولى بالمجاهدة في هذا الكتاب من أهل الكتاب في كتابهم فقال‏:‏ ‏{‏أفأنتم له‏}‏ أي لتكونوا دون أهل الكتاب برد ما أنزل لتشريفكم عليهم وعلى غيرهم مع أنكم لا تنكرون كتابهم ‏{‏منكرون*‏}‏ أي أنه لو أنكره غيركم لكان ينبغي لكم مناصبته، فكيف يكون الإنكار منكم‏؟‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 54‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ‏(‏51‏)‏ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ‏(‏52‏)‏ قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ‏(‏53‏)‏ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏54‏)‏‏}‏

ولما كان مقصود السورة الدلالة على القدرة على ما استبعده العرب من إعادة الحيوان بعد كونه تراباً، وبدأ ذكر الأنبياء بمن صرفه في العناصر الأربعة كما تقدم قص ذلك من التوراة في سورتي البقرة والأعراف إشارة إلى من استبعد عليه ما جعله إلى بعض عبيده أعمى الناس، تلاه من الأنبياء بمن سخر له واحداً من تلك العناصر، مرتباً لهم على الأخف في ذلك فالأخف على سبيل الترقي، فبدأهم بذكر من سخر له عنصر النار، مع التنبيه للعرب على عماهم عن الرشد بإنكاره للشرك بعبادة الأوثان على أبيه وغيره، ودعائهم إلى التوحيد، والمجاهدة في الله على ذلك حق الجهاد، وهو أعظم آباء الرادين لهذا الذكر، والمستمسكين بالشرك تقليداً للآباء، إثباتاً للقدرة الباهرة الدالة على التوحيد الداعي إليه جميع هؤلاء الأصفياء، هذا مع مشاركته بإنزال الصحف عليه لموسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ومشاركته لهما في الهجرة، وإذا تأملت ما في سورتي الفرقان والشعراء ازداد ما قلته وضوحاً، فإنه لما أخبر تعالى أنهم قالوا ‏{‏لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 32‏]‏ بدأ بقصة موسى الذي كتب له ربه في الألواح من كل شيء، وقومه مقرّون بعظمة كتابه وأنه أوتي من الآيات ما بهر العقول، وكفر به مع ذلك كثير منهم‏.‏ ولما قال في الشعراء ‏{‏ما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث‏}‏ ‏[‏الآية‏:‏ 5‏]‏ كما هنا، صنع كما صنع هنا من البداءة بقصة موسى عليه السلام وإيلائها ذكر إبراهيم عليه السلام فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد ءاتينا‏}‏ بما لنا من العظمة ‏{‏إبراهيم رشده‏}‏ أي صلاحه وإصابته وجه الأمر واهتداءه إلى عين الصواب وأدل الدلالة وأعرف العرف وأشرف القصد الذي جلبناه عليه؛ وقال الرازي في اللوامع‏:‏ والرشد قوة بعد الهداية- انتهى‏.‏ وأضافة إليه إشارة إلى أنه رشد يليق به على علو مقامه وعظم شأنه لا جرم ظهر عليه أثر ذلك من بين أهل ذلك الزمان كلهم فآثر الإسلام على غيره من الملل ‏{‏من قبل‏}‏ أي قبل موسى وهارون عليهما السلام ‏{‏وكنا‏}‏ بما لنا من العظمة ‏{‏به‏}‏ ظاهراً وباطناً ‏{‏عالمين*‏}‏ بأنه جبلة خير يدوم على الرشد ويترقى فيه إلى أعلى درجاته لما طبعناه عليه بعظمتنا من طبائع الخير؛ وتعليقُ ‏{‏إذ قال‏}‏ أي إبراهيم ‏{‏لأبيه وقومه‏}‏ ب ‏{‏عالمين‏}‏ إشارة إلى أن قوله لما كان بإذن منا ورضى لنا نصرناه- وهو وحده- على قومه كلهم، ولو لم يكن يرضينا لمنعناه منه بنصر قومه عليه وتمكين النار منه، فهو مثل ما مضى في قوله ‏{‏قل ربي يعلم القول في السماء والأرض‏}‏ ومفهوم هذا القيد لا يضر لأنه لا يحصي ما ينفيه من المنطوقات، وإن شئت فعلقه ب ‏{‏آياتنا‏}‏؛ ثم ذكر مقول القول في قوله منكراً عليهم محقراً لأصنامهم في أسلوب التجاهل لإثبات دعوى جهلهم بدليل‏:‏ ‏{‏ما هذه التماثيل‏}‏ أي الصور التي صنعتموها مماثلين بها ما فيه روح، جاعلين بها ما لا يكون إلا لمن لا مثل له، وهي الأصنام ‏{‏التي أنتم لها‏}‏ أي لأجلها وحدها، مع كثرة ما يشابهها وما هو أفضل منها ‏{‏عاكفون*‏}‏ أي موقعون الإقبال عليها مواظبون على ذلك، فبأي معنى استحقت منكم هذا الاختصاص، وإنما هي مثال للحي في الصورة وهو أعلى منها بالحياة التي أفاضها الله عليه‏.‏

ولما أتاهم بهذا القاصم، استأنف الخبر سبحانه عن جوابهم بقوله‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ مسوين أنفسهم بالبهائم التي تقاد ولا علم بما قيدت له‏:‏ ‏{‏وجدنا ءاباءنا لها‏}‏ خاصة ‏{‏عابدين*‏}‏ فاقتدينا بهم لا حجة لنا غير ذلك‏.‏ ولما غلوا في الجهل غير محتشمين من إقرارهم على أنفسهم به، بالاستناد إلى محض التقليد بعد إفلاسهم من أدنى شبهة فضلاً عن الدليل، استأنف الله تعالى الإخبار عن جوابه بقوله‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ أي منبهاً لهم بسوط التقريع على أن الكلام مع آبائهم كالكلام معهم‏:‏ ‏{‏لقد كنتم‏}‏ وأكد بقوله‏:‏ ‏{‏أنتم‏}‏ لأجل صحة العطف لأن الضمير المرفوع المتصل حكمه حكم جزء الفعل، هذا مع الإشارة إلى الحكم على ظواهرهم وبواطنهم ‏{‏وءاباؤكم‏}‏ أي من قبلكم ‏{‏في ضلال‏}‏ قد أحاط بكم إحاطة الظرف بالمظروف والمسلوك بالسلك ‏{‏مبين*‏}‏ ليس به نوع من الخفاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 61‏]‏

‏{‏قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ ‏(‏55‏)‏ قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏56‏)‏ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ‏(‏57‏)‏ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ‏(‏58‏)‏ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏59‏)‏ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ‏(‏60‏)‏ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

ولما لم تكن عادته مواجهة أحد بما يكره، استأنف الإخبار عنهم بما يدل عليه فقال‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ ظناً منهم أنه لم يقل ذلك على ظاهره‏:‏ ‏{‏أجئتنا‏}‏ في هذا الكلام ‏{‏بالحق‏}‏ الذي يطابقه الواقع ‏{‏أم أنت من اللاعبين*‏}‏ فظاهر كلامك غير حق ‏{‏قال‏}‏ بانياً على ما تقديره‏:‏ ليس كلامي لعباً، بل هو جد، وهذه التماثيل ليست أرباباً ‏{‏بل ربكم‏}‏ الذي يستحق منكم اختصاصه بالعبادة ‏{‏رب السماوات والأرض‏}‏ أي مدبرهن القائم بمصالحهن ‏{‏الذي فطرهن*‏}‏ أي أوجدهما وشق بهما ظلمة العدم، وأنتم وتماثيلكم مما فيهما من مصنوعاته أنتم تشهدون بذلك إذا رجعتم إلى عقولكم مجردة عن الهوى ‏{‏وأنا على ذلكم‏}‏ الأمر البين من أنه ربكم وحده فلا تجوز عبادة غيره ‏{‏من الشاهدين*‏}‏ أي الذين يقدرون على إقامة الدليل على ما يشهدون به لأنهم لم يشهدوا إلا على ما هو عندهم مثل الشمس، لا كما فعلتم أنتم حين اضطركم السؤال إلى الضلال‏.‏

ولما أقام البرهان على إثبات الإله الحق، أتبعه البرهان على إبطال الباطل فقال‏:‏ ‏{‏وتالله‏}‏ وهو القسم، والأصل في القسم الباء الموحدة، والواو بدل منها، والتاء بدل من الواو، وفيها- مع كونها بدلاً- زيادة على التأكيد بالتعجب‏:‏ قال الأصبهاني‏:‏ كأنه تعجب من تسهل الكيد على يده- انتهى‏.‏ وفيها أيضاً أنها تدل على رجوع التسبب باطناً، فكأنها إشارة إلى أنه بعد أن تسبب في ردهم عن عبادتها ظاهراً بما خاطبهم به، تسبب من ذلك ثانياً باطناً بإفسادها ‏{‏لأكيدن‏}‏ أكد لأنه مما ينكر لشدة عسره؛ والكيد‏:‏ الاحتيال في الضرر ‏{‏أصنامكم‏}‏ أي هذه التي عكفتم عليها ناسين الذي خلقكم وإياها، أي لأفعلن بها ما يسوءكم بضرب من الحيلة‏.‏

ولما كان عزمه على إيقاع الكيد في جميع الزمان الذي يقع فيه توليهم في أيّ جزء تيسر له منه، أسقط الجارّ فقال‏:‏ ‏{‏بعد أن تولوا‏}‏ أي توقعوا التولي عنها، وحقق مراده بقوله‏:‏ ‏{‏مدبرين*‏}‏ لأنزلكم من الدليل العقلي على تحقيق الحق إذ لم تكونوا من أهله إلى الدليل الحسي على إبطال الباطل‏.‏

ولما كانوا في غاية التعظيم لأصنامهم لرسوخ أقدامهم في الجهل، لم يقع في أوهامهم قط أن إبراهيم عليه السلام يقدم على ما قال، وعلى تقدير إقدامه الذي هو عندهم من قبيل المحال لا يقدر على ذلك، فتولوا إلى عيدهم، وقصد هو ما كان عزم عليه فشمر في إنجازه تشميراً يليق بتعليقه اليمين بالاسم الأعظم ‏{‏فجعلهم‏}‏ أي عقب توليهم ‏{‏جذاذاً‏}‏ قطعاً مهشمة مكسرة مفتتة، من الجذ وهو القطع ‏{‏إلا كبيراً‏}‏ واحداً ‏{‏لهم‏}‏ أي للأصنام أو لعبادها فإنه لم يكسر وجعل الفأس معه ‏{‏لعلهم‏}‏ أي أهل الضلال ‏{‏إليه‏}‏ وحده ‏{‏يرجعون*‏}‏ عند إلزامه لهم بالسؤال فتقوم عليهم الحجة، إذ لو ترك غيره معه لربما زعموا أن كلاًّ يكل الكلام إلى الآخر عند السؤال لغرض من الأغراض، فلما عادوا إلى أصنامهم فوجدوها على تلك الحال علم أنه لا بد لهم عند ذلك من أمر هائل، فاستؤنف الإخبار عنه بقوله‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ أي أهل الضلال‏:‏ ‏{‏من فعل هذا‏}‏ الفعل الفاحش ‏{‏بآلهتنا‏}‏ ثم استأنفوا الخبر عن الفاعل فقالوا مؤكدين لعلمهم أن ما أقامه الخليل عليه السلام على بطلانها يميل القلوب إلى اعتقاد أن هذا الفعل حق‏:‏ ‏{‏إنه من الظالمين*‏}‏ حيث وضع الإهانة في غير موضعها، فإن الآلهة حقها الإكرام، لا الإهانة والانتقام ‏{‏قالوا‏}‏ أي بعضهم لبعض‏:‏ ‏{‏سمعنا‏}‏ ولم يريدوا تعظيمه مع شهرته وشهرة أبيه وعظمتهما فيهم ليجترئ عليه من لا يعرفه فنكروه بقولهم‏:‏ ‏{‏فتى‏}‏ أي شاباً من الشبان ‏{‏يذكرهم‏}‏ أي بالنقص والعيب ‏{‏يقال له إبراهيم*‏}‏ يعنون‏:‏ فهو الذي يظن أنه فعله ‏{‏قالوا‏}‏ مسببين عن هذا كارهين لأن يأخذوه سراً فيقال‏:‏ أخذ بغير بينة، وهم كفرة وهو قد خالفهم في دينهم فإلى الله المشتكى من قوم يأخذون أكابر أهل دينهم بغير بينة بل ولا ظنة ‏{‏فأتوا به‏}‏ إلى هنا أي إلى بيت الأصنام ‏{‏على أعين الناس‏}‏ أي جهرة، والناس ينظرون إليه نظراً لا خفاء معه حتى كأنه ماشٍ على أبصارهم، متمكناً منها تمكن الراكب على المركوب، وعبر بالعين عن البصر ليفهم الأكابر، ويجمع القلة لإفادة السياق الكثرة، فيفيد الأمران قلة ما، لئلا يتوهم من جمع الكثرة جميع الناس مطلقاً ‏{‏لعلهم‏}‏ إذا رأوه ‏{‏يشهدون*‏}‏ أي أنه فعل بالآلهة هذا الفعل، أو أنه ذكرها بسوء، فيكون ذلك مسوغاً لأخذه بذلك، أو يشهد بفعله بعضهم، لأن الشيء إذا حضر كانت أحواله بالذكر أولى منها إذا كان غائباً، وكان هذا عين ما قصده الخليل عليه السلام أن يبين- في هذا المحفل الذي لا يوجد مثله- ما هم عليه من واضح الجهل المتضمن قلة العقل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 72‏]‏

‏{‏قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ‏(‏62‏)‏ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ ‏(‏63‏)‏ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏64‏)‏ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ ‏(‏65‏)‏ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ ‏(‏66‏)‏ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏67‏)‏ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ‏(‏68‏)‏ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ‏(‏69‏)‏ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ‏(‏70‏)‏ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ‏(‏71‏)‏ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

ولما كان إحضاره معلوماً أنهم لا يتأخرون عنه، استأنف أخباره لما يقع التشوف له فقال‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ منكرين عليه مقررين، له بعد حضوره على تلك الهيئة‏:‏ ‏{‏ءأنت فعلت هذا‏}‏ الفعل الفاحش ‏{‏بآلهتنا يا إبراهيم * قال‏}‏ متهكماً لهم وملزماً بالحجة‏:‏ ‏{‏بل فعله كبيرهم‏}‏ غيره من أن يعبد معه من هو دونه، وهذا على طريق إلزام الحجة؛ وتقييده بقوله‏:‏ ‏{‏هذا‏}‏ إشارة إلى الذي تركه بغير كسر يدل على أنه كان فيهم كبير غيره‏.‏ وكذا التنكير فيما مضى من قوله ‏{‏إلا كبيراً لهم‏}‏ وهذا- مع كونه تهكماً بهم وكناية عن أنهم لا عقل لهم لعبادتهم من يعلمون أنه لا يقدر على فعل ما- تنبيه على قباحة الشرك، وأنه لا يرضى به إله بل يهلك من عبد غيره وكل ما عبد من دونه إن كان قادراً، غيره على مقامه العظيم، ومنصبه الجسيم‏.‏

ولما أخبر بذلك، ولم يكن أحد رآه حتى يشهد على فعله، وكانوا قد أحلوهم بعبادتهم ووضع الطعم لهم محل من بعقل، سبب عنه أمرهم بسؤالهم فقال‏:‏ ‏{‏فاسألوهم‏}‏ أي عن الفاعل ليخبروكم به ‏{‏إن كانوا ينطقون*‏}‏ على زعمكم أنهم آلهة يضرون وينفعون، فإن قدروا على النطق أمكنت منهم القدرة وإلا فلا، أما سؤال الصحيح فواضح، وأما غيره فكما يسأل الناس من جرح أو قطعت يده أو رجله أو ضرب وسطه وبقيت فيه بقية من رمق، وإسناده الفعل ما لا يصح إسناده إليه وأمره بسؤاله بعد الإضراب عن فعله متضمن لأنه هو الفاعل‏.‏

ولما كان روح الكلام إقراره بالفعل وجعلهم موضع الهزء لأنهم عبدوا ما لا قدرة له على دفاع أصلاً تسبب عنه قوله تعالى الدال على خزيهم‏:‏ ‏{‏فرجعوا‏}‏ أي الكفرة ‏{‏إلى أنفسهم‏}‏ بمعنى أنهم فكروا فيما قال فاضطرهم الدليل إلى أن تحققوا أنهم على محض الباطل وأن هذه الشرطية الممكنة عقلاً غير ممكنة عادة ‏{‏فقالوا‏}‏ يخاطب بعضهم بعضاً مؤكدين لأن حالهم يقتضي إنكارهم لظلمهم‏:‏ ‏{‏إنكم أنتم‏}‏ خاصة ‏{‏الظالمون*‏}‏ لكونكم وضعتم العبادة في غير موضعها، لا إبراهيم فإنه أصاب في إهانتهم سواء المحزّ ووافق عين الغرض، وفي أنكم بعد أن عبدتموها ولا قدرة لها تركتموها بلا حافظ‏.‏

ولما كان رجوعهم إلى الضلال بعد هذا الإقرار الصحيح الصريح في غاية البعد، عبر بأداته مشيراً إلى ذلك فقال‏:‏ ‏{‏ثم نكسوا‏}‏ أي انقلبوا في الحال غير مستحيين مما يلزمهم من الإقرار بالسفه حتى كأنهم قلبهم قالب لم يمكنهم دفعه ‏{‏على رءوسهم‏}‏ فصار أعلاهم أسفلهم برجوعهم عن الحق إلى الباطل، من قولهم‏:‏ نكس المريض- إذا رجع إلى حاله الأول، قائلين في مجادلته عن شركائهم‏:‏ ‏{‏لقد علمت‏}‏ يا إبراهيم‏!‏ ‏{‏ما هؤلاء‏}‏ لا صحيحهم ولا جريحهم ‏{‏ينطقون*‏}‏ فكانوا بما فاهوا به ظانين أنه ينفعهم، ممكنين لإبراهيم عليه السلام من جلائل المقاتل‏.‏

ولما تسبب عن قولهم هذا إقرارهم بأنهم لا فائدة فيهم، فاتجهت لإبراهيم عليه السلام الحجة عليهم، استأنف سبحانه الإخبار عنها بقوله‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ منكراً عليهم موبخاً لهم مسبباً عن إقرارهم هذا‏:‏ ‏{‏أفتعبدون‏}‏ ونبههم على أن جميع الرتب تتضاءل دون رتبة الإلهية بقوله‏:‏ ‏{‏من دون الله‏}‏ أي من أدنى رتبة من تحت رتبة الملك الذي لا ضر ولا نفع إلا بيده لاستجماعه صفات الكمال‏.‏ ولما كانوا في محل ضرورة بسبب تكسير أصنامهم، راجين من ينفعهم في ذلك، قدم النفع فقال‏:‏ ‏{‏ما لا ينفعكم شيئاً‏}‏ لترجوه ‏{‏ولا يضركم*‏}‏ شيئاً لتخافوه‏.‏

ولما أثبت أن معبوداتهم هذه في حيز العدم، فكانوا لعبادتها دونها، استأنف تبكيتهم لذلك بأعلى كلمات التحقير التي لا تقال إلا لما هو غاية في القذارة فقال‏:‏ ‏{‏أف‏}‏ أي تقذر وتحقير مني، وفي الأحقاف ما يتعين استحضاره هنا، ثم خص ذلك بهم بقوله‏:‏ ‏{‏لكم ولما تعبدون‏}‏ ولما كانت على وجه الإشراك، وكانت جميع الرتب تحت رتبته تعالى، وكانت أصنامهم هذه في رتب منها سافلة جداً أثبت الجار فقال‏:‏ ‏{‏من دون الله‏}‏ أي الملك الأعلى لدناءتكم وقذارتكم‏.‏

ولما تسبب عن فعلهم هذا وضوح أنه لا يقر به عاقل، أنكر عليهم ووبخهم على ترك الفكر تنبيهاً على أن فساد ما هم عليه يدرك ببديهة العقل فقال‏:‏ ‏{‏أفلا تعقلون*‏}‏ أي وأنتم شيوخ قد مرت بكم الدهور وحنكتكم التجارب‏.‏

ولما وصل بهم إلى هذا الحد من البيان، فدحضت حجتهم، وبان عجزهم، وظهر الحق، واندفع الباطل، فانقطعوا انقطاعاً فاضحاً، أشار سبحانه إلى الإخبار عن ذلك بقوله استئنافاً‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ عادلين إلى العناد واستعمال القوة الحسية‏:‏ ‏{‏حرقوه‏}‏ بالنار لتكونوا قد فعلتم فيه فعلاً هو أعظم مما فعل بآلهتكم ‏{‏وانصروا آلهتكم‏}‏ التي جعلها جذاذاً؛ وأشاء التعبير- بأداة الشك وفعل الكون واسم الفاعل إلى أن أذاه لا يسوغ، وليس الحامل عليه إلا حيلة غلبت على الفطرة الأولى السليمة- في قوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم فاعلين*‏}‏ أي النصرة لها، فإن النار أهول المعاقبات وأفظعها، فهي أزجر لمن يريد مثل هذا الفعل، واتركوا الجدال فإنه يورث ضد ما تريدون، ويؤثر عكس ما تطلبون، فعزموا على ذلك فجمعوا الحطب شهراً ووضعوه في جوبة من الأرض أحاطوا بها جداراً كما في الصافات حتى كان ذلك الحطب كالجبل، وأضرموا فيه النار حتى كان على صفة لم يوجد في الأرض قط مثلها، حتى إن كان الطائر ليمر بها في الجو فيحترق، ثم ألقوه فيها بالمنجنيق فقال‏:‏ حسبي الله ونعم الوكيل- أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، ولأبي يعلى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

«لما ألقي إبراهيم عليه السلام في النار قال‏:‏ اللهم‏!‏ إنك في السماء واحد وأنا في الأرض واحد، عبدك» وقال البغوي‏:‏ أتاه خازن المياه فقال‏:‏ إن أردت أخمدت النار، وأتاه خازن الرياح فقال‏:‏ إن شئت طيرت النار في الهواء، فقال إبراهيم‏:‏ لا حاجة لي إليكم حسبي الله ونعم الوكيل‏.‏ فأراد الله الذي له القوة جميعاً سلامته منها، فعبر عن ذلك بقوله سبحانه استئنافاً لجواب من زاد تشوفه إلى ما كان من أمره بعد الإلقاء فيها‏:‏ ‏{‏قلنا‏}‏ أي بعظمتنا ‏{‏يا نار كوني‏}‏ بإرادتنا التي لا يتخلف عنها مراد ‏{‏برداً‏}‏‏.‏ ولما كان البرد قد يكون ضاراً قال‏:‏ ‏{‏وسلاماً‏}‏ فكانت كذلك، فلم تحرق منه إلا وثاقه‏.‏

ولما كان المراد اختصاصه عليه السلام بهذا قيده به، ولما كان المراد حياته ولا بد، عبر بحرف الاستعلاء فقال‏:‏ ‏{‏على إبراهيم*‏}‏ أي فكان ما أردنا من سلامته، وروى البغوي من طريق البخاري عن أم شريك رضي الله عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ وقال‏:‏ كان ينفخ النار على إبراهيم» وقال ابن كثير‏:‏ وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا عبيد الله بن أخي وهب ثنا عمي عن جرير بن حازم أن نافعاً حدثه قال‏:‏ حدثتني مولاة الفاكه بن المغيرة المخزومي قالت‏:‏ دخلت على عائشة رضي الله عنها فرأيت في بيتها رمحاً فقلت‏:‏ يا أم المؤمنين‏!‏ ما تصنعين بهذا الرمح‏؟‏ فقالت‏:‏ نقتل به هذه الأوزاغ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار لم يكن في الأرض دابة إلا تطفئ عنه غير الوزغ، فإنه كان ينفخ على إبراهيم فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله»‏.‏

ولما قدم ما نبه على شدة الاهتمام به لإفهامه أنه حكم بسلامته من كيدهم عند همهم به فكيف بما بعده‏!‏ قال عاطفاً على ما تقديره‏:‏ فألقوه فيها‏:‏ ‏{‏وأرادوا به كيداً‏}‏ أي مكراً بإضراره بالنار وبعد خروجه منها ‏{‏فجعلناهم‏}‏ أي بما لنا من الجلال‏.‏

ولما كانوا قد أرادوا بما صنعوا له من العذاب أن يكون أسفل منهم أهل ذلك الجمع، وكان السياق لتحقيق أمر الساعة الذي هو مقصود السورة، وكان الصائر إليها المفرط فيها بالتكذيب بها قد خسر خسارة لا جبر لها لفوات محل الاستدراك، قال‏:‏ ‏{‏الأخسرين*‏}‏ لأن فضيحتهم في الدنيا الموجبة للعذاب في الأخرى كانت بنفس فعلهم الذي كادوه به، ولم يذكر سبحانه شعيباً عليه السلام مع أنه سخر له النار في يوم الظلة فأحرقت عصاه، لأن فعل النار بقومه كان على ما هو المعهود من أمرها بخلاف فعلها مع إبراهيم عليه السلام، فإنه على خلاف المعتاد، وقد وقع مثل هذا لبعض أتباع نبيناً صلى الله عليه وسلم، وهو أبو مسلم الخولاني، طلبه الأسود العنسي لما ادعى النبوة فقال له‏:‏ أتشهد أني رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ما أسمع، قال‏:‏ أتشهد أن محمداً رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏!‏ فأمر بنار فألقي فيها فوجدوه قائماً يصلي فيها وقد صارت عليه برداً وسلاماً، وقدم المدينة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فأجلسه عمر بينه وبين أبي بكر رضي الله عنهما وقال‏:‏ الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الله‏.‏

ولما كان إنجاؤه- وهو وحده- ممن أرادوا به هذا الأمر العظيم من العجائب فكيف إذا انضم إليه غيره، ولم يكن في ذلك الغير آية تمنعهم عنه كما كان في إبراهيم عليه السلام، قال‏:‏ ‏{‏ونجيناه‏}‏ أي بعظمتنا ‏{‏ولوطاً‏}‏ أي ابن أخيه وصديقه لكونه آمن به وصدقه، من بلادهما كوثى بلاد العراق، منتهيين إلى الأرض المقدسة، ولعله عبر بإلى الدالة على تضمين «انتهى» للدلالة على أن هناك غاية طويلة، فإنهما خرجا من كوثى من أرض العراق إلى حران ثم من حران ‏{‏إلى الأرض‏}‏ المقدسة ‏{‏التي باركنا فيها‏}‏ بأن ملأناها من الخيرات الدنيوية والأخروية بما فيها من المياه التي بها حياة كل شيء من الأشجار والزروع وغيرها، وما ظهر منها من الأنبياء عليهم السلام الذي ملؤوا الأرض نوراً ‏{‏للعالمين*‏}‏ كما أنجيناك أنت يا أشرف أولاده وصديقك أبا بكر رضي الله عنه إلى طيبة التي شرفناها بك، وبثثنا من أنوارها في أرجاء الأرض وأقطارها ما لم نبث مثله قط، وباركنا فيها للعالمين، بالخلفاء الراشدين وغيرهم من العلماء والصالحين، الذين انبثت خيراتهم العلمية والعملية والمالية في جميع الأقطار‏.‏

ولما أولد له في حال شيخوخته وعجز امرأته مع كونها عقيماً، وكان ذلك دالاً على الاقتدار على البعث الذي السياق كله له، قال‏:‏ ‏{‏ووهبنا‏}‏ دالاً على ذلك بنون العظمة ‏{‏له إسحاق‏}‏ أي من شبه العدم، وترك شرح حاله لتقدمه، أي فكان ذلك دالاًّ على اقتدارنا على ما نريد لا سيما من إعادة الخلق في يوم الحساب؛ ولما كان قد يظن أنه- لتولده بين شيخ فانٍ وعجوز مع يأسها عقيم- كان على حالة من الضعف، لا يولد لمثله معها، نفى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ويعقوب نافلة‏}‏ أي ولد إسحاق زيادة على ما دعا به إبراهيم عليهما السلام؛ ثم نمى سبحانه أولاد يعقوب- وهو إسرائيل- وذرياتهم إلى أن ساموا النجوم عدة، وباروا الجبال شدة ‏{‏وكلاًّ‏}‏ من هؤلاء الأربعة؛ وعظم رتبتهم بقوله‏:‏ ‏{‏جعلنا صالحين*‏}‏ أي مهيئين- لطاعتهم لله- لكل ما يريدونه أو يرادون له أو يراد منهم، وهذا إشارة إلى أن العاصي هالك، لا يصلح لشيء وإن طال عمره، واشتد أمره، لأن العبرة بالعاقبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 79‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ‏(‏73‏)‏ وَلُوطًا آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ ‏(‏74‏)‏ وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏75‏)‏ وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ‏(‏76‏)‏ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏77‏)‏ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ‏(‏78‏)‏ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

ولما ذكر أنه أعطاهم رتبة الصلاح في أنفسهم، ذكر أنه أعطاهم رتبة الإصلاح لغيرهم، فقال معظماً لإمامتهم‏:‏ ‏{‏وجعلناهم أئمة‏}‏ أي أعلاماً ومقاصد يقتدى بهم في الدين بما أعطاهم من النبوة‏.‏ ولما كان الإمام قد يدعو إلى الردى، ويصد عن الهدى، إذا كانت إمامته ظاهرة لا يصحبها صلاح باطن، احترز عن ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏يهدون‏}‏ أي يدعون إلينا من وفقناه للهداية ‏{‏بأمرنا‏}‏ وهو الروح الذي هو العمل المؤسس على العلم بإخبار الملائكة به عنا، ولإفهام ذلك عطف عليه قوله معظماً لوحيه إليهم‏:‏ ‏{‏وأوحينا إليهم‏}‏ أي أيضاً ‏{‏فعل‏}‏ أي أن يفعلوا ‏{‏الخيرات‏}‏ كلها وهي شرائع الدين، ولعله عبر بالفعل دلالة على أنهم امتثلوا كل ما أوحي إليهم‏.‏

ولما كانت الصلاة أم الخيرات، خصها بالذكر فقال‏:‏ ‏{‏وإقام الصلاة‏}‏ قال الزجاج‏:‏ الإضافة عوض عن تاء التأنيث‏.‏ يعني فيكون من الغالب لا من القليل، وكان سر الحذف تعظيم الصلاة لأنها مع نقصها عن صلاتنا- لما أشار إليه الحذف- بهذه المنزلة من العظمة فما الظن بصلاتنا‏.‏

ولما كانت الصلاة بين العبد والحق، وكان روحها الإعراض عن كل فان، عطف عليها قوله‏:‏ ‏{‏وإيتاء الزكاة‏}‏ أي التي هي مع كونها إحساناً إلى الخلق بما دعت الصلاة إلى الانسلاخ عنه من الدنيا، ففعلوا ما أوحيناه إليهم ‏{‏وكانوا لنا‏}‏ دائماً جبلة وطبعاً ‏{‏عابدين*‏}‏ أي فاعلين لكل ما يأمرون به غيرهم، فعل العبد مع مولاه من كل ما يجب له من الخدمة، ويحق له من التعظيم والحرمة‏.‏

ولما كان سبحانه قد سخر لصديقه لوط عليه السلام إهلاك من عصاه في أول الأمر بحجارة الكبريت التي هي من النار، وفي آخره بالماء الذي هو أقوى من النار، تلاه به فقال‏:‏ ‏{‏ولوطاً‏}‏ أي وآتيناه أو واذكر لوطاً؛ ثم استأنف قوله‏:‏ ‏{‏ءاتيناه‏}‏ أي بعظمتنا ‏{‏حكماً‏}‏ أي نبوة وعملاً محكماً بالعلم ‏{‏وعلماً‏}‏ مزيناً بالعمل ‏{‏ونجيناه‏}‏ بانفرادنا بالعظمة‏.‏

ولما كانت مادة «قرا» تدل على الجمع، قال‏:‏ ‏{‏من القرية‏}‏ المسماة سدوم، أي من عذابهم وجميع شرورهم، وأفرد تنبيهاً على عمومها بالقلع والقلب وأنه كان في غاية السهولة والسرعة، وقال أبو حيان‏:‏ وكانت سبعاً، عبر عنها بالواحدة لاتفاق أهلها على الفاحشة‏.‏ ‏{‏التي كانت‏}‏ قبل إنجائنا له منها ‏{‏تعمل الخبائث‏}‏ بالذكران، وغير ذلك من الطغيان، فاستحقوا النار التي أمر المؤلفات، بما ارتكبوا من الشهوة المحظورة لعدهم لها أحلى الملذذات، والغمر بالماء القذر المنتن الذي جعلناه- مع أنا جعلنا من الماء كل شيء حي- لا يعيش فيه حيوان، فضلاً عن أن يتولد منه، ولا ينتفع به، لما خامروا من القذر الذي لا ثمرة له‏.‏

ولما كان في هذا إشارة إلى إهلاك القرية، وأن التقدير‏:‏ ودمرنا عليهم بعد انفصاله عنهم، علله بقوله‏:‏ ‏{‏إنهم كانوا‏}‏ أي بما جلبوا عليه ‏{‏قوم سوء‏}‏ أي ذوي قدرة على الشر بانهماكهم في الأعمال السيئة ‏{‏فاسقين*‏}‏ خارجين من كل خير، ثم زاد الإشارة وضوحاً بقوله‏:‏ ‏{‏وأدخلناه‏}‏ أي دونهم بعظمتنا ‏{‏في رحمتنا‏}‏ أي في الأحوال السنية، والأقوال العلية، والأفعال الزكية، التي هي سبب الرحمة العظمى ومسببة عنها؛ ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إنه من الصالحين*‏}‏ أي لما جلبناه عليه من الخير‏.‏

ولما أتم سبحانه قصة لوط المناسبة لقصة الخليل عليهما السلام بحجارة الكبريت، ولقصة نوح عليه السلام بالماء الذي غمرت به قراه السبع، أتبع ذلك قصة نوح عليه السلام الذي سخر له من الماء ما لم يسخره لغيره لغمره جميع الأرض دانيها وقاصيها، واطيها وعاليها، فقال‏:‏ ‏{‏ونوحاً إذ‏}‏ أي اذكره حين ‏{‏نادى‏}‏ أي دعا ربه ‏{‏إني مغلوب فانتصر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 10‏]‏ و‏{‏لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 26‏]‏ ونحوه من الدعاء‏.‏

ولما كان دعاؤه لم يستغرق الأزمنة الماضية، أثبت الجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ أي من قبل لوط ومن تقدمه ‏{‏فاستجبنا‏}‏ أي أردنا الإجابة وأوجدناها بعظمتنا ‏{‏له‏}‏ في ذلك النداء؛ ثم سبب عن ذلك قوله‏:‏ ‏{‏فنجيناه‏}‏ أي بعظمتنا تنجية عظيمة ‏{‏وأهله‏}‏ الذين أدام ثباتهم على الإسلام وصلتهم به ‏{‏من الكرب العظيم*‏}‏ من الأذى والغرق؛ قال أبو حيان‏:‏ والكرب‏:‏ أقصى الغم، والأخذ بالنفس، وهو هنا الغرق، عبر عنه بأول أحوال ما يأخذ الغريق‏.‏ ‏{‏ونصرناه‏}‏ أي مخلصين له ومانعين ومنتقمين ‏{‏من القوم‏}‏ أي المتصفين بالقوة ‏{‏الذين كذبوا‏}‏ أي أوقعوا التكذيب له ‏{‏بآياتنا‏}‏ أي بسبب إتيانه بها، وهي من العظمة على أمر لا يخفى‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ ثم أهلكناهم، علله بقوله‏:‏ ‏{‏إنهم كانوا قوم سوء‏}‏ لا عمل لهم إلا ما يسوء ‏{‏فأغرقناهم‏}‏ أي بعظمتنا التي أتت عليهم كلهم ‏{‏أجمعين*‏}‏ حتى من قطع الكفر بين نوح عليه السلام وبينه من أهله فصار لا يعد من أهله، لاختلاف الانتساب بالدين‏.‏

ولما كان ربما قيل‏:‏ لم قدم إبراهيم ومن معه على نوح وهو أبوهم ومن أولي العزم، وموسى وهارون على إبراهيم وهو كذلك، أشار بقصة داود وسليمان- على جميعهم الصلاة والسلام- إلى أنه ربما يفضل الابن الأب في أمر، فربما قدم لأجله وإن كان لا يلزم منه تقديمه مطلقاً، مع ما فيها من أمر الحرث الذي هو أنسب شيء لما بعد غيض الماء في قصة نوح عليه السلام، هذا في أوله وأما في آخره فما ينبته مثال للدنيا في بهجتها وغرورها، وانقراضها ومرورها، ومن تصريف داود عليه السلام في الجبال وهي أشد التراب الذي هو أقوى من الماء، وفي الحديد وهو أقوى من تراب الجبال، وسليمان عليه السلام في الريح وهي أقوى من التراب فقال‏:‏ ‏{‏وداود‏}‏ أي أول من ملك ابنه من أنبياء بني إسرائيل ‏{‏وسليمان‏}‏ ابنه، أي اذكرهما واذكر شأنهما ‏{‏إذ‏}‏ أي حين ‏{‏يحكمان في الحرث‏}‏ الذي أنبت الزرع، وهو من إطلاق اسم السبب على المسبب كالسماء على المطر والنبت، قيل‏:‏ كان ذلك كرماً، وقيل‏:‏ زرعاً ‏{‏إذ نفشت‏}‏ أي انتشرت ليلاً بغير راع ‏{‏فيه غنم القوم‏}‏ الذي لهم قوة على حفظها فرعته؛ قال قتادة‏:‏ النفش بالليل، والهمل بالنهار‏.‏

‏{‏وكنا‏}‏ أي بعظمتنا التي لا تقر على خلاف الأولى في شرع من الشروع ‏{‏لحكمهم‏}‏ أي الحكمين والمتحاكمين إليهما ‏{‏شاهدين‏}‏ لم يغب عنا ذلك ولا شيء من أمرهم هذا ولا غيره، فذلك غيرنا على داود عليه السلام تلك الحكومة مع كونه ولينا وهو مأجور في اجتهاده لأن الأولى خلافها، فإنه حكم بأن يمتلك صاحب الحرث الغنم بما أفسدت من الكرم، فكأنه رأى قيمة الغنم قيمة ما أفسدت ‏{‏ففهمناها‏}‏ أي الحكومة بما لنا من العلم الشامل والقدرة الكاملة على رفع من نشاء ‏{‏سليمان‏}‏ فقال‏:‏ تسلم الغنم لصاحب الكرم ليرتفق بلبنها ونسلها وصوفها ومنافعها، ويعمل صاحبها في الكرم حتى يعود كما كان فيأخذ حرثه، وترد الغنم إلى صاحبها، وهذا أرفق بهما‏.‏ وهذا أدل دليل على ما تقدمت الإشارة إليه عند ‏{‏قل ربي يعلم القول‏}‏، و‏{‏كنا به عالمين إذ قال لأبيه‏}‏ وفيه رد عليهم في غيظهم من النبي صلى الله عليه وسلم في تسفيه الآباء والرد عليهم كما في قصة إبراهيم عليه السلام لأنه ليس بمستنكر أن يفضل الابن أباه ولو في شيء، والآية تدل على أن الحكم ينقض بالاجتهاد إذا ظهر ما هو أقوى منه‏.‏

ولما كان ذلك ربما أوهم شيئاً في أمر داود عليه السلام، نفاه بقوله دالاً على أنهما على الصواب في الاجتهاد وإن كان المصيب في الحكم إنما هو أحدهما ‏{‏وكلاًّ‏}‏ أي منهما ‏{‏ءاتينا‏}‏ بما لنا من العظمة ‏{‏حكماً‏}‏ أي نبوة وعملاً مؤسساً على حكمة العلم، وهذا معنى ما قالوه في قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن من الشعر حكماً- أي قولاً صادقاً مطابقاً للحق ‏{‏وعلماً‏}‏ مؤيداً بصالح العمل، وعن الحسن رحمه الله‏:‏ لولا هذه الآية لرأيت القضاة قد هلكوا، ولكنه أثنى على سليمان عليه السلام بصوابه، وعذر داود عليه السلام باجتهاده انتهى‏.‏ وأتبعه من الخوارق ما يشهد له بالتقدم والفضل فقال‏:‏ ‏{‏وسخرنا‏}‏ أي بعظمتنا التي لا يعيبها شيء‏.‏

ولما كان هذا الخارق في التنزيه، لم يعد الفعل اللام زيادة في التنزيه وإبعاداً عما ربما أوهم غيره فقال مقدماً ما هو أدل على القدرة في ذلك لأنه أبعد عن النطق‏:‏ ‏{‏مع داود الجبال‏}‏ أي التي هي أقوى من الحرث، حال كونهن ‏{‏يسبحن‏}‏ معه، ولو شئنا لجعلنا الحرث أو الغنم يكلمه بصواب الحكم، ولم يذكر ناقة صالح لأنها مقترحة موجبة لعذاب الاستئصال، فلم يناسب ذكرها هنا، لما أشار إليه قوله تعالى ‏{‏لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم‏}‏، «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين» وهذه الآيات التي ذكرت هنا ليس فيها شيء مقترح ‏{‏والطير‏}‏ التي سخرنا لها الرياح التي هي أقوى من الجبال وأكثر سكناها الجبال، سخرناها معه تسبح ‏{‏وكنا فاعلين*‏}‏ أي من شأننا الفعل لأمثال هذه الأفاعيل، ولكل شيء نريده بما لنا من العظمة المحيطة، فلا تستكثروا علينا أمراً وإن كان عندكم عجباً، وقد اتفق نحو هذا لغير واحد من هذه الأمة، كان مطرف بن عبد الله ابن الشخير إذا دخل بيته سبحت معه ابنته، هذا مع أن الطعام كان يسبح بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم والحصا وغيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 88‏]‏

‏{‏وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ‏(‏80‏)‏ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ‏(‏81‏)‏ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ‏(‏82‏)‏ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏83‏)‏ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ‏(‏84‏)‏ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ ‏(‏85‏)‏ وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏86‏)‏ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏87‏)‏ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

ولما ذكر التسخير بالتسبيح، أشار إلى تسخير الحديد الذي هو أقوى تراب الجبال وأصلبه وأصفاه فقال‏:‏ ‏{‏وعلمناه‏}‏ أي بعظمتنا ‏{‏صنعة لبوس‏}‏ قال البغوي‏:‏ وهو في اللغة اسم لكل ما يلبس ويستعمل في الأسلحة كلها، وهو كالجلوس والركوب‏.‏ ‏{‏لكم‏}‏ أي لتلبسوه في حربكم، وألنا له في عمله الحديد ليجتمع له إلى العلم سهولة العمل فيأتي كما يريد ‏{‏لتحصنكم‏}‏ أي اللبوس أو داود أو الله على قراءة الجماعة في حصن مانع، وهو معنى قراءة النون الدال على مقام العظمة عند أبي بكر عن عاصم ورويس عن يعقوب، وقراءة أبي جعفر وابن عامر وحفص بالفوقانية للدروع نظراً إلى الجنس ‏{‏من بأسكم‏}‏ الكائن مما يحصل من بعضكم لبعض من شدائد الحرب لا من البأس كله ‏{‏فهل أنتم شاكرون*‏}‏ لنا على ذلك لتوحدنا وتؤمنوا بأنبيائنا؛ قال البغوي‏:‏ قال قتادة‏:‏ أول من صنع الدروع وسردها وحلقها داود عليه السلام، وكانت من قبل صفائح، والدرع يجمع الخفة والحصانة‏.‏

ولما كان قد سخر لابنه سليمان عليه السلام الريح التي هي أقوى من بقية العناصر قال‏:‏ ‏{‏ولسليمان‏}‏ معبراً باللام لأنها كانت تحت أمره لنفعه ولا إبهام في العبارة ‏{‏الريح‏}‏ قال البغوي‏:‏ وهي جسم لطيف يمتنع بلطفه من القبض عليه، ويظهر للحس بحركته، وكان سليمان عليه السلام يأمر بالخشب فيضرب له، فإذا حمل عليه ما يريد من الدواب، الناس وآلة الحرب أمر العاصفة فدخلت تحت الخشب فاحتملته حتى إذا استقلت به أمر الرخاء تمر به شهراً في غدوته وشهراً في روحته- انتهى ملخصاً‏.‏ فكان الريحان مسخرتين له، ولكن لما كان السياق هنا لبيان الإقدار على الأفعال الغريبة الهائلة، قال‏:‏ ‏{‏عاصفة‏}‏ أي شديدة الهبوب، هذا باعتبار عملها، ووصفت بالرخاء باعتبار لطفها بهم فلا يجدون لها مشقة ‏{‏تجري بأمره‏}‏ إذا أمرها غادية ورائحة ذاهبة إلى حيث أراد وعائدة على حسب ما يريد، آية في آية‏.‏

ولما كان قد علم مما مضى من القرآن لحامله المعتني بتفهم معانيه، ومعرفة أخبار من ذكر فيه، أنه من بني إسرائيل، وأن قراره بالأرض المقدسة فكان من المعلوم أنه يجريها إلى غيره، وكان الحامل إلى مكان ربما تعذر عوده مع المحمول، عبر بحرف الغاية ذاكراً محل القرار دلالة على أنها كما تحمله ذهاباً إلى حيث أراد من قاص ودان- تحمله إلى قراره أياماً فقال‏:‏ ‏{‏إلى الأرض التي باركنا‏}‏ أي بعزتنا ‏{‏فيها‏}‏ وهي الشام ‏{‏وكنا‏}‏ أي أزلاً وأبداً بإحاطة العظمة ‏{‏بكل شي‏}‏ من هذا وغيره من أمره وغيره ‏{‏عالمين*‏}‏ فكنا على كل شيء قادرين، فلولا رضانا به لغيرناه عليه كما غيرنا على من قدمنا أمورهم، وهذا من طراز ‏{‏قل ربي يعلم القول‏}‏ كما مضى، وتسخير الريح له كما سخرت للنبي صلى الله عليه وسلم ليالي الأحزاب، قال حذيفة رضي الله عنه‏:‏ حتى كانت تقذفهم بالحجارة، ما تجاوز عسكرهم فهزمهم الله بها وردوا بغيظهم لم ينالوا خيراً‏.‏

وأعم من جميع ما أعطى الأنبياء عليهم السلام أنه أعطى صلى الله عليه وسلم التصرف في العالم العلوي الذي جعل سبحانه من الفيض على العالم السفلي بالاختراق لطباقه بالإسراء تارة، وبإمساك المطر لما دعا بسبع كسبع يوسف، وبإرساله أخرى كما في أحاديث كثيرة، وأتي مع ذلك بمفاتيح خزائن الأرض كلها فردها صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولما ذكر تسخير الريح له، ذكر أنه سخر له مأغلب عناصره النار والريح للعمل في الماء، مقابلة لارتفاع الحمل في الهواء باستفال الغوص في الماء فقال‏:‏ ‏{‏ومن‏}‏ أي وسخرنا له من ‏{‏الشياطين‏}‏ الذين هم أكثر شيء تمرداً وعتواً، وألطف شيء أجساماً ‏{‏من‏}‏ وعبر بالجمع لأنه أدل على عظم التصرف فقال‏:‏ ‏{‏يغوصون له‏}‏ في المياه لما يأمرهم به من استخراج الجواهر وغيرها من المنافع، وذلك بأن أكثفنا أجسامهم مع لطافتها لتقبل الغوص في الماء معجزة في معجزة، وقد خنق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم العفريت الذي جاء بشهاب من نار وأسر جماعة من أصحابه رضي الله عنهم عفاريت أتوا إلى ثمر الصدقة وأمكنهم الله منهم ‏{‏ويعملون عملاً‏}‏ أي عظيماً جداً‏.‏

ولما كان إقدارهم على الغوص أعلى ما يكون في أمرهم، وكان المراد استغراق إقدارهم على ما هو أدنى من ذلك مما يريده منهم، نزع الجار فقال‏:‏ ‏{‏دون ذلك‏}‏ أي تحت هذا الأمر العظيم أو غيره من بناء ما يريد، واصطناع ما يشاء، من الصنائع العجيبة، والآثار الغريبة، وفي ذلك تسخير الماء والتراب بواسطة الشاطين، فقد ختم عند انتهاء الإشارة إلى تسخير العناصر- بمن سخر له العناصر الأربعة كما ابتدأ بذلك ‏{‏وكنا‏}‏ أي بعظمتنا التي تغلب كل شيء ‏{‏لهم حافظين*‏}‏ من أن يفعلوا غير ما يريد، ولمن يذكر هوداً عليه السلام هنا، إن كان قد سخر له الريح، لأن عملها له كان على مقتضى العادة في التدمير والأذى عند عصوفها وإن كان خارقاً بقوته، والتي لسليمان عليه السلام للنجاة والمنافع، هذا مع تكرارها فأمرها أظهر، وفعلها أزكى وأطهر‏.‏

ولما أتم سبحانه ذكر من سخر لهم العناصر التي منها الحيوان المحتوم ببعثته تحقيقاً لذلك، ذكر بعدهم من وقع له أمر من الخوارق يدل على ذلك، إما بإعادة أو حفظ أو ابتداء، بدأهم بمن أعاد له ما كان أعدمه من أهل ومال، وسخر له عنصر الماء في إعادة لحمه وجلده، لأن الإعادة هي المقصودة بالذات في هذه السورة فقال‏:‏ ‏{‏وأيوب‏}‏ أي واذكر أيوب، قالوا‏:‏ وهو ابن أموص بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وكان صاحب البثنية من بلاد الشام، وكان الله قد بسط عليه الدنيا فشكره سبحانه ثم ابتلاه فصبر ‏{‏إذ نادى ربه‏}‏ أي المحسن إليه في عافيته وضره بما آتاه من صبره ‏{‏أني مسني الضر‏}‏ بتسليطك الشيطان عليّ في بدني وأهلي ومالي وقد طمع الآن في ديني، وذلك أنه زين لامرأة أيوب عليه السلام أن تأمره أن يذبح الصنم فإنه يبرأ ثم يتوب، ففطن لذلك وحلف‏:‏ ليضربنها إن برأ، وجزع من ذلك، والشكوى إلى الله تعالى ليست من الجزع فلا تنافي الصبر، وقال سفيان بن عيينة‏:‏ ولا من شكا إلى الناس وهو في شكواه راض بقضاء الله تعالى‏.‏

‏{‏وأنت‏}‏ أي والحال أنك أنت ‏{‏أرحم الراحمين*‏}‏ فافعل بي ما يفعل الرحمن بالمضرور، وهذا تعريض بسؤال الرحمة حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة، وربّه بأبلغ صفاتها ولم يصرح، فكان ذلك ألطف في السؤال، فهو أجدر بالنوال ‏{‏فاستجبنا له‏}‏ أي أوجدنا إجابته إيجاد من كأنه طالب لها بسبب ندائه، هذا بعظمتنا في قدرتنا على الأمور الهائلة، وسبب عن ذلك قوله‏:‏ ‏{‏فكشفنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏ما به من ضر‏}‏ بأن أمرناه أن يركض برجله، فتنبع له عين من ماء، فيغتسل فيها، فينبت لحمه وجلده أحسن ما كان وأصحه ودل على تعاظم هذا الأمر بقوله‏:‏ ‏{‏وءاتيناه أهله‏}‏ أي أولاده وما تبعهم من حشمه، أحييناهم له بعد أن كانوا ماتوا ‏{‏ومثلهم‏}‏ أي وأوجدنا له مثلهم في الدنيا، فإن قوله‏:‏ ‏{‏معهم‏}‏ يدل على أنهم وجدوا عند وجدان الأهل، حال كون ذلك الكشف والإيتاء ‏{‏رحمة‏}‏ أي نعمة عظيمة تدل على شرفه بما شأنه العطف والتحنن، وهو من تسمية المسبب باسم السبب، وفخمها بقوله‏:‏ ‏{‏من عندنا‏}‏ بحيث لا يشك من ينظر ذلك أنا ما فعلناه إلا رحمة منا له وأن غيرنا لم يكن يقدر على ذلك ‏{‏وذكرى‏}‏ أي عظة عظيمة ‏{‏للعابدين*‏}‏ كلهم، ليتأسوا به فيصبروا إذا ابتلوا بفتنة الضراء ولا يظنوا أنها لهوانهم، ويشكروا إذا ابتلوا بنعمة السراء لئلا تكون عين شقائهم، واتبعه سبحانه بمن أنبع له من زمزم ماءً باقياً شريفاً، إشارة إلى شرفه وشرف ولده خاتم الرسل ببقاء رسالته ومعجزته فقال‏:‏ ‏{‏إسماعيل‏}‏ أي ابن إبراهيم عليهما السلام الذي سخرنا له من الماء بواسطة الروح الأمين ما عاش به صغيراً بعد أن كان هالكاً لا محالة، ثم جعلناه طعام طعم وشفاء سقم دائماً، وصناه- وهو كبير- من الذبح فذبحه أبوه واجتهد في إتلافه إمتثالاً لأمرنا فلم ينذبح كما اقتضته إرادتنا ‏{‏وإدريس‏}‏ أي ابن شيث بن آدم عليهم السلام الذي احييناه بعد موته ورفعناه مكاناً علياً، وهو أول نبي بعث من بني آدم عليهما السلام ‏{‏وذا الكفل‏}‏ الذي قدرناه على النوم الذي هو الموت الأصغر، فكان يغلبه فلا ينام أو إلا قليلاً، يقوم الليل ولا يفتر، ويصوم النهار ولا يفطر، ويقضي بين الناس ولا يغضب‏.‏

فقدره الله على الحياة الكاملة في الدنيا التي هي سبب الحياة الكاملة في الأخرى وهو خليفة اليسع عليه السلام تخلفه على أن يتكفل له بصيام النهار وقيام الليل وأن لا يغضب، قيل‏:‏ إنه ليس بنبي وعن الحسن أنه نبي، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه إلياس، وقيل‏:‏ هو يوشع بن نون، وقيل‏:‏ زكريا- عليهم السلام‏.‏

ولما قرن بينهم لهذه المناسبة، استأنف مدحهم فقال‏:‏ ‏{‏كل‏}‏ أي كل واحد منهم ‏{‏من الصابرين*‏}‏ على ما ابتليناه به، فآتيناهم ثواب الصابرين ‏{‏وأدخلناهم‏}‏ ودل على عظمة ما لهم عنده سبحانه بقوله‏:‏ ‏{‏في رحمتنا‏}‏ ففعلنا بهم من الإحسان ما يفعله الراحم بمن يرحمه على وجه عمهم من جميع جهاتهم، فكان ظرفاً لهم؛ ثم علل بقوله‏:‏ ‏{‏إنهم من الصالحين‏}‏ لكل ما يرضاه الحكيم منهم، بمعنى أنهم جبلوا جبلة خير فعملوا على مقتضى ذلك، ثم أتبعهم من هو أغرب حالاً منهم في الحفظ فقال ‏{‏وذا النون‏}‏ أي اذكره ‏{‏إذ ذهب مغاضباً‏}‏ أي على هيئة الغاضب لقومه بالهجرة عنهم، ولربه بالخروج عنهم دون الانتظار لإذن خاص منه بالهجرة، وروي عن الحسن أن معنى ‏{‏فظن أن لن نقدر عليه‏}‏ أن لن نعاقبه بهذا الذنب، أي ظن أنا نفعل معه من لا يقدر، وهو تعبير عن اللازم بالملزوم مثل التعبير عن العقوبة بالغضب، وعن الإحسان بالرحمة وفي أمثاله كثرة، فهو أحسن الأقوال وأقومها- رواه البيهقي في كتاب الأسماء والصفات عن قتادة عنه وعن مجاهد مثله وأسند من غير طريق عن ابن عباس رضي الله عنهما معناه، وكذا قال الأصبهاني عنه أن معناه‏:‏ لن نقضي عليه بالعقوبة، وأنه قال أيضاً ما معناه‏:‏ فظن أن لن نضيق عليه الخروج، من القدر الذي معناه الضيق، لا من القدرة، ومنه ‏{‏فقدر عليه رزقه‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 16‏]‏ وروى البيهقي أيضاً عن الفراء أن نقدر بمعنى نقدر- مشدداً وبحكم، وأنشد عن ابن الأنباري عن أبي صخر الهذلي‏:‏

ولا عائداً ذاك الزمان الذي مضى تباركت ما نقدر يقع ولك الشكر ‏{‏فنادى‏}‏ أي فاقتضت حكمتنا أن عاتبناه حتى استسلم فألقى نفسه في البحر فالتقمه الحوت وغاص به إلى قرار البحر ومنعناه من أن يكون له طعاماً، فنادى ‏{‏في الظلمات‏}‏ من بطن الحوت الذي في أسفل البحر في الليل، فهي ظلمات ثلاث- نقله ابن كثير عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما رضي الله عنهم‏.‏ ‏{‏أن لا إله إلا أنت‏}‏‏.‏

ولما نزهه عن الشريك عم فقال‏:‏ ‏{‏سبحانك‏}‏ أي تنزهت عن كل نقص، فلا يقدر على الإنجاء من مثل ما أنا فيه غيرك؛ ثم أفصح بطلب الخلاص بقوله ناسباً إلى نفسه من النقص ما نزه الله عن مثله‏:‏ ‏{‏إني كنت‏}‏ أي كوناً كبيراً ‏{‏من الظالمين‏}‏ أي في خروجي من بين قومي فبل الإذن، فاعف عني كما هي شيمة القادرين، ولذلك قال تعالى مسبباً عن دعائه‏:‏ ‏{‏فاستجبنا له‏}‏ أي أوجدنا الإجابة إيجاد من هو طالب لها تصديقاً لظنه أن لن نعاقبه «أنا عند ظن عبدي بي» والآية تفهم أن شرط الكون مع من يظن الخير دوام الذكر وصدق الإلتجاء، وقال الرازي في اللوامع‏:‏ وشرط كل من يلتجئ إلى الله أن يبتدئ بالتوحيد ثم بالتسبيح والثناء ثم بالاعتراف والاستغفار والاعتذار، وهذا شرط كل دعاء- انتهى‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فخلصناه مما كان فيه، عطف عليه قوله، تنبيهاً على أنهما نعمتان لأن أمره مع صعوبته كان في غاية الغرابة‏:‏ ‏{‏ونجيناه‏}‏ أي بالعظمة البالغة تنجية عظيمة، وأنجيناه إنجاء عظيماً ‏{‏من الغم‏}‏ الذي كان ألجأه إلى المغاضبة ومن غيره، قال الرازي‏:‏ وأصل الغم الغطاء على القلب- انتهى‏.‏ فألقاه الحوت على الساحل وأظله الله بشجرة القرع‏.‏

ولما كان هذا وما تقدمه أموراً غريبة، أشار إلى القدرة على أمثالها من جميع الممكنات، وأن ما فعله من إكرام أنبيائه عام لأتباعهم بقوله‏:‏ ‏{‏وكذلك‏}‏ أي ومثل ذلك الإنجاء العظيم الشأن والتنجية ‏{‏ننجي‏}‏ أي بمثل ذلك العظمة ‏{‏المؤمنين*‏}‏ إنجاء عظيماً وننجيهم تنجية عظيمة، ذكر التنجية أولاً يدل على مثلها ثانياً، وذكر الإنجاء ثانياً يدل على مثله أولاً وسر ذلك الإشارة إلى شدة العناية بالمؤمنين لأنهم ليس لهم كصبر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام- بما أشار إليه بحديث «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل» «يبتلى المرء على قدر دينه» فيسلهم سبحانه من البلاء كما تسل الشعرة من العجين، فيكون ذلك مع السرعة في لطافة وهناء- بما أشارت إليه قراءة ابن عامر وأبي بكر عن عاصم رضي الله عنه بتشديد الجيم لإدغام النون الثانية فيه، أو يكون المعنى أن من دعا منهم بهذا الدعاء أسرع نجاته، فإن المؤمن متى حصلت له هفوة راجع ربه فنادى معترفاً بذنبه هذا النداء، ولاسيما إن مسه بسوط الأدب، فبادر إليه الهرب‏.‏